كان اللواء ناجي نفادي يأمل في أن يعيش حياة أخرى..وقت أخر ..زمان أخر.. ربما كانت لديه أحلام لم يحققها.. مستقبل لم يدركه..وظيفة لم يصل اليها.. مظالم كان ينوي رفعها..قريب كان يتمنى وصله..وقبله كان ضياء قاسم ..كان يأمل في العيش لفترات..يحصل من الدنيا على الكثير والكثير..مثلنا جميعاً نلهث خلف كل شيئ..نتمناه ونريد تحقيقه..رغم أنها جميعاً ليست حقيقة غير أننا نفكر فيها..تاركين التفكير والعمل في الحقيقة الواحدة والمؤكدة"الموت"..ويظل كلاً من يأمل ويتمنى أن يعيش حياة أبدية.. حياة لا نهاية لها..فالوقت لم يسعفنا حتى نفعل ما نريد.. إنها الحياة.
وفي كتابه "لغز الموت"،كان الدكتور مصطفى محمود يرى الموت بفلسفة قد لا تستوعبها العقول، كان يقصد أن يقر بأنه الحقيقة المؤكدة..وأنه الواقع لا محالة مهما طال الزمن..هو يرى البشر مشغولون بأشياء..هي الهدف بالنسبة لهم..بينما الموت يدق باب كلاً منهم صباحاً ومساء.
وإنه لشيءٌ غريب أن يصبحَ الشيءُ لا شيء..الموتُ لا يعني أحداً وإنما الحياة هيَ التي تعني الجميع..إن الموتَ في داخله حياة لأن الموت يحدث في داخلنا كل لحظة حتى ونحنُ أحياء..إننا معنوياً نموت ومادياً نموت وأدبياً نموت في كل لحظة حتى الأفكار والعواطف تموت
وبالموتِ تكون الحياة.
وكل منا يحمل جثته على كتفيه..ليس هناك أغرب من الموت..إنه حادث غريب..
أن يصبح الشيء ..لا شيء..ثياب الحداد ..والسرادق ..والمباخر ..ونحن كأننا نتفرج على رواية ..ولا نصدق و لا أحد يبدو عليه أنه يصدق..حتى المشيعين الذين يسيرون خلف الميت لا يفكرون إلا في المشوار...وأولاد الميت لا يفكرون إلا في الميراث...والحانوتية لا يفكرون إلا في حسابهم...والمقرئون لا يفكرون إلا في أجورهم.. وكل واحد يبدو أنه قلق على وقته أو صحته أو فلوسه..
و كل واحد يتعجل شيئاً يخشى أن يفوته ..شيئاً ليس الموت أبداً.
إن عملية القلق على الموت بالرغم من كل هذا المسرح التأثيري هي مجرد قلق على الحياة..لا أحد يبدو أنه يصدق أو يعبأ بالموت ..حتى الذي يحمل النعش على أكتافه...الخشبة تغوص في لحم أكتافه .. وعقله سارح في اللحظة المقبلة وكيف يعيشها..الموت لا يعني أحداً.. و إنما الحياة هي التي تعني الكل.
من الذي يموت إذاً ؟، إنه الميت ؟..و حتى هذا ..لا يدري مصيره..إن الجنازة لا تساوي إلا مقدار الدقائق القليلة التي تعطل فيها المرور و هي تعبر الشارع..
وهي عطلة تتراكم فيها العربات على الجانبين ..كل عربة تنفخ في غيرها في قلق..لتؤكد مرة أخرى..أنها تتعجل الوصول إلى هدفها ..وأنها لا تفهم ..هذا الشيء الذي اسمه الموت...ما الموت ..وما حقيقته..ولماذا يسقط الموت من حسابنا دائماً ..حتى حينما نواجهه؟
لأن الموت في حقيقته حياة...ولأنه لا يحتوي على مفاجأة..ولأن الموت يحدث في داخلنا في كل لحظة حتى ونحن أحياء..كل نقطة لعاب ..وكل دمعة ..وكل قطرة عرق ..فيها خلايا ميتة .. نشيعها إلى الخارج دون احتفال..ملايين الكرات الحمر تولد وتعيش وتموت ..في دمنا.. دون أن ندري عنها شيئاً ..ومثلها الكرات
البيض ..وخلايا اللحم والدهن والكبد و الأمعاء ..كلها خلايا قصيرة العمر تولد و تموت ويولد غيرها ويموت ..وتدفن جثثها في الغدد أو تطرد في الإفرازات في هدوء و صمت ..دون أن نحس أن
شيئاً ما قد يحدث...مع كل شهيق و زفير ..يدخل الأكسجين ..مثل البوتوجاز إلى فرن الكبد فيحرق كمية من اللحم و
يولد حرارة تطهي لنا لحماً آخر جديداً نضيفه إلى أكتافنا...هذه الحرارة هي الحياة..و لكنها أيضاً احتراق ..الموت في صميمها ..والهلاك في طبيعتها.
أين المفاجأة إذن و كل منا يشبه نعشاً يدب على الساقين ..كل منا يحمل جثته على كتفيه في كل لحظة؟
حتى الأفكار تولد وتورق وتزدهر في رؤوسنا ثم تذبل و تسقط .. حتى العواطف ..تشتعل وتتوهج في قلوبنا ثم تبرد ..حتى الشخصية كلها تحطم شرنقتها مرة بعد أخرى ..وتتحول من شكل ..إلى شكل..إننا معنوياً نموت و أدبياً نموت و مادياً نموت في كل لحظة.
و أصدق من هذا أن نقول أننا نعيش مادياً وأدبياً نعيش ومعنوياً نعيش ..لأنه لا فرق يذكر بين الموت والحياة ..لأن الحياة هي عملية الموت..لأن الأوراق التي تنبت من فروع الشجرة ..ثم تذبل و تموت وتسقط ..وينبت غيرها ..وغيرها ..هذه العملية الدائبة هي الشجرة..لأن الحاضر هو جثة الماضي في نفس الوقت..لأن الحركة هي وجودي في مكان ما و انعدامي من هذا المكان في نفس اللحظة . فبهذا وحده أمشي وأتحرك ..وتمضي معي الأشياء..لأن الحياة ليست تعادلية..ولكنها شد و جذب و صراع بين نقيضين..محاولة عاجزة للتوفيق بينها في تراكيب واهية هي في ذاتها في حاجة للتوفيق بينها ..مرة ..ومرة ومرات ..بدون نهاية وبدون نجاح أبداً .. وبدون الوصول إلى أي تعادلية.
إذن الحياة أزمة ..وتوتر..ونحن نذوق الموت في كل لحظة ..ونعيشه ..فلا نضطرب بل على العكس ..نحس بكياننا من خلال هذا الموت الذي داخلنا ..ونفوز بأنفسنا و ندركها..ونستمتع بها..ولا نكتفي بهذا..بل ندخل في معركة مع مجتمعنا ..وندخل في موت وحياة من نوع آخر..موت وحياة على نطاق واسع تتصارع فيه مجتمعات و نظم وتراكيب إنسانية كبيرة.
و من خلال هذا الصراع الأكبر..نحس بأنفسنا أكثر و أكثر ..إنها ليست خلايا تولد وتموت في جسد رجل واحد..و لكنها أيضاً مجموعات بشرية تولد و تموت في جسم المجتمع كله.