05:24 pm 08/01/2024
| 7252
أعترف أنني لم اكن أدرك ذلك جيداً ، لكنِ أدركته وقت أن صدر قرار بنقل المهندس محمد الشيمي رئيس بتروجت الأسبق لديوان الوزارة ، فى حركة لم تكن سوى تنكيل بالرجل ، رأيت كيف سيطر الحزن على الشيمي وكأنه لم يحزن بعد ، وتمنى لو اكمل مشواره دون أن يتقاضى مليماً واحداً .
ساعتها أدركت كيف كانت غضبة المهندس محمد عبدالحافظ ، عندما نقله الوزير أسامه كمال من رئاسة بتروجت الى رئاسة صان مصر ، وإذا اخذنا فى الاعتبار حالة حزن محمد الشيمي ، وهو ليس ابن بتروجت ، بل مجرد ضيف حل على الشركة لمدة أربع سنوات ونيف، فما بالنا ب محمد عبدالحافظ وهو بتروجتاوتي حتى النخاع ، يبدو أن الالم كان موجع والحزن كان عميق والجراح غائر ، الفرق أن الشيمي انفعل مع الحدث وتحدث ، بينما محمد عبدالحافظ كتم غيظه وغضبه فى نفسه .
قيمة بتروجت الحقيقية فى أذهان ووجدان كل من عمل بها لا يمكن رسم تحليل لها ، ولا يمكن ادراكها ولا يمكن تفسيرها ، ليس فقط لدى كبار القيادات ، بل حتى صغارهم سناً ومنصباً ، ترون كم الفخر الدي يشعر به العمال عندما تدشن الشركة مشروعاً او تنزل برجاً او تنقل معدة ، حتماً هو شعور لا يمكن ان تجده عند غيرهم من موظفي الشركات التي تساهم فيها بتروجت ويتقاضون رواتب اضعاف ما يتقاضونه عمال بتروجت .
ترون كيف أن المهندس صلاح إسماعيل الذي لم تكن له علاقة ببتروجت سوى عام واحد الذي ترأسها فيه ، باتت هي كل ذكرياته ، باتت هي كل تاريخه ، صلاح اسماعيل الذي عمل في أكبر شركة إنتاج لسنوات "جابكو " ثم ساهم فى تأسيس صان مصر ، توقفت ذاكرته عند عام قضاه فى بتروجت .
كل ذلك جعلني أتذكر كيف كانت غضبة المهندس كمال مصطفى ، وهو الرئيس الاطول فى عمر بتروجت ، عندما نقله المهندس سامح فهمي ، في نهاية تسعينيات القرن الماضي ، الى شركة إنبي ، كان من المفترض ان يفرح كما يفرح قيادات اليوم ، فقد نُقل لشركة هادئة اكثر راحة من بتروجت ، لكنه ظل مصعوقاً حتى بعد ترك إنبي وسوميد ، والى الآن لا اعتقد أن هذه الغُصة مُحيت من ذاكرة المهندس كمال مصطفى .
كل ما عدا بتروجت لا محل له من الإعراب ، الذكريات والتاريخ والمجد ، يتوقف على محطة هذه الشركة ، الذي تربى فى بتروجت وخرج منها ، والذي عمل فيها ولو عام ، كلهم يحكون عن بتروجت .
ولسنوات طويلة ، عاصرت المهندسون: هاني ضاحي وعبدالوهاب السماحي ومحمد الجوهري ومحمد عبدالحافظ وعبدالمجيد الرشيدي والسيد البدوي وتاج محرم وأشرف بهاء ، وغيرهم العشرات ، جميعهم تولى شركتين وثلاثة بل وأربعة، ومنهم من أصبح وزيراً ومحافظاً ومنهم من أسس شركات ، لكنهم دائماً وابدا يحكون عن بتروجت ، ذاكرتهم مع بتروجت لا تنافسها ذاكرة ، بتروجت هي محطتهم الأولى والأخيرة مهما تعددت المحطات بعدها .
رافقت أيضاً مهندسون وفنيون ومحاسبون واداريون ، خرجوا من بتروجت وتقلدوا مناصب فى شركات أخرى ، لا يحكون أيضاً إلا عن بتروجت ، هم يعرفون أنفسهم فى المحافل وبين العامة والخاصة بالعلامة التجارية ذائعة الصيت "بتروجت"، وجدانهم لا يتسع لشيء أخر ، وكيف يتسع ، وعندما تذكر بتروجت ترتجف أبدانهم .
حتماً هذا شعور المهندسون: وليد لطفي رئيس الشركة الحالي ، وأشرف بهاء و خالد إبراهيم وعمرو بدوي ومعتز خليل ومحسن قطب وجابر السيد ومحمد شكري ومحمد الدروي وياسر محجوب ، وأحمد صلاح وعمرو الحسيني ومحمد عبدالرحيم ، والعشرات من قيادات بتروجت ، القدامى والمحدثين، صغاراً كانوا او كبارا .وهكذا سيدات بتروجت منذ تأسست الشركة وحتى الآن ،.
سألت كثيرون عن تفسير هذا الارتباط وهذا الحب وهذا التعلق وهذه الايدلوجية التي تخلقها بتروجت ، الجميع لم يسوقوا تفسيراً مختلف ، كل تفسيراتهم واحدة وهي : نداهة بتروجت التي تمسك بالجميع وتوقفهم عندها ، فلا حياة إلا ما كانت ، ولا ذكريات إلا عبر عبق بتروجت ، عرقها وجهدها وكفاحها وترابها المتناثر على ملابسهم ، خلق حالة ممتدة عبر الزمن ، لا تموت حتى لو رحلت الأبدان .
وإذا افترضنا أن الكبار رأوا بتروجت طفلاً صغيراً ولد بين ايديهم وبعرقهم وبكفاحهم، وعاشوا معه وهو يكبر ويكبر حد العملقة ، فزاد تعلقهم به دون النظر الى ما يحصلون عليه ، فماذا عن الصغار الذين رأوها عملاقة ، لا تفسير !
هنا يغيب العقل ويفشل المنطق ، وتختفي النظريات ، ثم نعود إلى تفسير العرب القدامى ، إنها النداهة يا صديقي ، إنه المعنى الذي يعجز الجميع عن تفسيره مهما بلغ من العلم والمعرفة .
#عثمان_علام #حكاوي_علام