الكاتب : عثمان علام |
03:30 am 23/04/2024
| 631
سألت نفسي : ماذا يقول عنك الناس ، وهل تحب مدحهم أم تُثني على ذمهم ، أحياناً يكون ذلك من باب الثناء ، أنت ترى الناس مجموعة من الرعاع فلا تعتد بأرائهم ..المهم هل تستطيع أن تكتب عن نفسك رواية أو قصة أو حتى مقال ؟!
تبدو الإجابة صعبه للغاية ، فليس لدي أنا شخصياً ما اكتبه ، فى العقد الرابع طننت أنني سأستطيع الحكي عندما أبلغ العقد الخامس ، وها أنا قد قاربت على العقد الخامس ، وليس لدي شيء أقدمه ، فليست لدي ثقافة الحكي ، وليست لدي ملكة الكذب ، فاكتب أشياء لم تحدث ، أنا لم اعش حياة تستحق أن اكتب عنها حتى الآن ، لم أسافر خمسون أو مائة دولة ، لم أحفظ ألفي بيت من الشعر ، ولم أقرأ مائتي كتاب ، حتى القرأن الذي حفظته نسيني ، ولم أعاشر عشرون إمرأة ، ولم أحاول الطير كعباس بن فرناس ، ولم أخوض الحروب كا هتلر وموسوليني ونابليون ، ولم أكن بطلاً كصلاح الدين ولا مجدداً كالامام محمد عبده …أنا لست أحداً من هؤلاء ، إذاً ماذا سأكتب حتى وانا فى الخمسون او الستين !..وعندما أكتب كيف لي أن أرى أراء الناس في نفسي ، وهل سيتقبلون ما أكتب ؟!
عباس محمود العقاد كتب عن نفسه كتاب عنوانه " أنا"،يحوى تسعة فصول ، أخترت منه الفصل الأول.
وقد بدأه بقول الكاتب الأمريكي وندل هولمز : إن الإنسان ثلاثة أشخاص في صورة واحدة..الإنسان كما خلقه الله والإنسان كما يراه الناس والإنسان كما يرى هو نفسه…فمَن من هؤلاء الأشخاص الثلاثة هو المقصود بعباس العقاد؟!
إنني لا أعرف عباس العقاد كما خلقه الله ، ولا أعرف عباس العقاد كما يراه الناس ، ولا أعرف عباس العقاد كما أراه، وأنا لا أراه على حال واحدة كل يوم .و هذه هي الصعوبة الأولى ، ولا أتحدث عن غيرها من الصعوبات ، ولكني أضربها مثلًا واحدًا من أمثلة كثيرة، ثم أختصر الطريق ، وأنتقل إلى الموضوع من قريب.
إنني لن أتحدث عن عباس العقاد كما خلقه الله ، فالله هو الأولى بأن يُسأَل عن ذلك لأنه أعلم بخلقه ، ولن أتحدث عن عباس العقاد كما يراه الناس ، فالناس هم المسئولون عن ذلك ويسألوا عن ذلك ، ولكن سأتحدث عن عباس العقاد كما أراه.
وعباس العقاد كما أراه أنا ، هو شيء آخر مختلف كل الاختلاف عن الشخص الذي يراه الكثيرون ، هو شخص أستغربه كل الاستغراب حين أسمعهم يصفونه أو يتحدثون عنه ، حتى ليخطر لي في أكثر الأحيان أنهم يتحدثون عن إنسان لم أعرفه قط، ولم أَلْتقِ به مرة في مكان ، فأضحك بيني وبين نفسي وأقول: ويل التاريخ من المؤرخين ، لأن الناس لا يعرفون من يعيش بينهم على قيد الحياة، ومن يسمعهم ويسمعونه، ويكتب لهم ويقرأونه، فكيف يعرفون من تقدم به الزمن ألف سنة، ولم ينظر إليهم قط ، ولم ينظروا إليه؟!
عباس العقاد هو في رأي بعض الناس رجل مفرط الكبرياء ورجل مفرط القسوة والجفاء ورجل يعيش بين الكتب ، ولا يباشر الحياة كما يباشرها سائر الناس ، ورجل يملكه سلطان المنطق والتفكير ، ولا سلطان للقلب ولا للعاطفة عليه ، ورجل يصبح ويمسي في الجد الصارم ، فلا تفتر شفتاه بضحكة واحدة إلا بعد استغفار واغتصاب .
وأقسم بكل ما يقسم به الرجل الشريف أن عباس العقاد "كما يراه الناس" هذا رجل لا أعرفه ، ولا رأيته ، ولا عشت معه لحظة واحدة ، ولا التقيت به في طريق …ونقيض ذلك هو الأقرب إلى الصواب.
نقيض ذلك ، هو رجل مفرط في التواضع، ورجل مفرط في الرحمة واللين ، ورجل لا يعيش بين الكتب إلا لأنه يباشر الحياة ؛ رجل لا يفلت لحظة واحدة في ليله ونهاره من سلطان القلب والعاطفة ، ورجل وسع شدقاه من الضحك ما يملأ مسرحًا من مسارح الفكاهة في روايات شارلي شابلن جميعًا …هذا الرجل هو نقيض ذاك .
ولا أقول: إن هذا الرجل هو عباس العقاد بالضبط والتحقيق، ولكني أريد أن أقول: إنهم لو وصفوه بهذه الصفة لكانوا أقرب جدًّا إلى الصواب، ولأمكنني أن أعرفه من وصفه إذا التقيت به هنا أو هناك، خلافًا لذلك الرجل المجهول الذي لا أعرفه بحال!
إنني لا أزعم أنني مفرط في التواضع.
ولكنني أعلم علم اليقين أنني لم أعامل إنسانًا قط معاملة صغيرٍ أو حقير، إلا أن يكون ذلك جزاء له على سوء أدب. وأعلم علم اليقين أنني أمقت الغطرسة على خلق الله، ولهذا أحارب كل دكتاتور بما أستطيع ، ولو لم تكن بيني وبينه صلة مكان أو زمان ، كما حاربت هتلر ونابليون وآخرين. وأنا لا أزعم أنني مفرط في الرقة واللين ، ولكنني أعلم علم اليقين أنني أجازف بحياتي، ولا أصبر على منظر مؤلم أو على شكاية ضعيف .
عندما كنت في السجن رجوت الطبيب أن يختار لي وقتًا للرياضة غير الوقت الذي تُنصَب فيه آلة الجلد لعقوبة المسجونين ، فدُهِش الطبيب، ظن أنه يسمع نادرة من نوادر الأعاجيب…وقال لي في صراحة: ما كنت أتخيل أن أسمع مثل هذه الطلب من العقاد «الجبار»، وهكذا كان يراني الطبيب ، مثله مثل بعض الناس .
وأُصِبت في السجن بنزلة حنجرية حادة حرمتني النوم وسلبتني الراحة، ولم تزل هذه النزلة الحنجرية عندي مقدمة لأخطر الأمراض كما حدث قبل نيف وعشرين سنة، ونجوت منها يومئذ بمعجزة من معجزات العلاج والعناية وتبديل الهواء، ومن أجل هذه النزلة الحنجرية ألبس في الشتاء تلك الكوفية التي علقتها الصحف الفكاهية في رقبتي لا تحل عنها في صيف أو شتاء، ولا في صبح أو مساء، حتى أوشكت أن تكون من علامات تحقيق الشخصية قبل الملامح والأعضاء.
وكانت زنزانة السجن التي اعتُقِلت بها على مقربة من أحواض الماء، شديدة الرطوبة والبرودة، يحيط بها الأسفلت من أسفلها إلى أعلاها، ولا تدخلها الشمس إلا بإشارة من بعيد.
فعرض المحامون أمري على المحكمة وحوَّلته المحكمة إلى النيابة، ودرسته النيابة مع وزارة الداخلية ومصلحة السجون، وتقرر بعد البحث الطويل نقلي إلى المستشفى، وإقامتي هناك في غرفة عالية تشرف على ميدان واسع وحديقة فسيحة، وتتصل بالداخلين والخارجين أثناء النهار، ويتردد عليها الأطباء والموكلون بالخدمة الطبية من الصباح إلى الصباح. فرج من الله، وأمنية عسيرة التحقيق تمهدت بعد جهد جهيد!
فصعدت إلى المستشفى وأنا أعتقد أن الخطر الأكبر قد زال أو هان، ولكني لم ألبث هناك ساعة حتى شعرت أن الزنزانة المغلقة أهون ألف مرة من هذا المكان الذي أصغي فيه إلى أنين المرضى ، وشكاية الموجعين ، ثم غالبت نفسي ساعة فساعة، حتى بلغت الطاقة مداها ولما يطلع الفجر من الليلة الأولى، وإذا بي أنهض من سريري وأنادي حارس الليل ليوقظ ضابط السجن ويعود بي إلى الزنزانة من حيث أتيت، ولتفعل النزلة الحنجرية وعواقبها الوخيمة ما بدا لها أن تفعل.
أنا أعلم من نفسي هذا، وأعلم أن الرحمة المفرطة باب من أبواب العذاب في حياتي منذ النشأة الأولى، وأعلم ما أعلم عن تلك العواطف التي يتحدث بها بعض الفضوليين ولا يعرفون منها غير التصنع والتمثيل، وتدميع العيون، وتبليل المناديل، ثم أسمع جبلًا من هذه الجبال البشرية يذكر الرحمة وما إليها، كأنها حلية لا يزين الله بها إلا أمثاله، ولا يعطل الله منها إلا أمثال عباس العقاد … فماذا يكون حكمي بعد هذا على آراء الناس في الناس؟!
لن يكون إلا قلة اعتداد برأي من الآراء يحسبونها الكبرياء وليست هي الكبرياء ، ولكنها موقف من لا يبالي أن يعتقد من يشاء ما يشاء.
#حكاوي_علام #عثمان_علام