إذا أردت أن تعرف معنى الوفاء الحقيقي فإقتني كلباً ولو لبعض الوقت، ستكتشف أننا نحن بنو البشر ذئاب تمشي على الأرض، لا تصون عهداً ولا تفي بالوعد، كلاً منا ينهش في الأخر بلا رحمةً أو شفقة.
منذ شهرين اهداني صديق كلب من فصيلة "البيتبول"، عمره خمسة واربعون يوما، ليست لدي هواية إقتناء الكلاب وتربيتها، فهي مكلفة اقتصادياً وتحتاج للرعاية والعناية طيلة الوقت، ومع إلحاح صغاري" كريم وعمر"، قبلت الهدية، وجئت بالكلب للبيت، وحاولت زوجتي قدر الإمكان رعايته والعناية به، وبعد أيام تحولت عشرته كعشرة الأبناء بالضبط، بل كنت في كثير من الأحيان أشعر بالمسئولية الكاملة تجاهه، فهو لا ينطق وغير قادر على أن يسوق آلامه اليك.
ظل اكثر من شهرين، وفي كل يوم كنت أغادر المنزل أعود مسرعاً لاتفقد حال الكلب "اودن" هكذا كان اسمه، وما إن اقترب دخول المدارس، شعرت وزوجتي معي أنه لا طاقة لنا بالإستمرار في تربية الكلب، واقترحنا أن نحمله لمنزل والد زوجتي، وقد كان وسط عدم ترحيب ونحيب من الصغيرين "كريم وعمر"، لكن كان القرار بالنقل، على أن نقوم بزيارته أسبوعياً أو نصف اسبوعياً.
بعد النقل تولى رعايته شقيق زوجتي حسام، والذي كان شديد الإسراف في الرعاية به، حتى أنه كان يطعمه نصف كيلو كبده يومياً، لكن لم يكن الطعام ولا الرعاية الزائدة هي الحاجة التي يحتاجها "أودن" الذي نُقل مرغماً دون أن يبدي حتى شعوراً بالإمتعاض .
بعد خمسة أيام دخل "أودن" في معركة مع الإكتئاب، فسرنا حالته بالإمتناع عن الطعام والإسهال المفرط والخمول، بأنها أعراض جسدية صاحبت نقله من مكان لأخر، ويوماً بعد أخر تسوء حالته، إلى أن قال الطبيب بأن هذه حالة إكتئاب حادة نتجت عن بعده عن أهله الذين يحبهم، وأصابه وهن وضعف شديدين، وعلق الطبيب له المحاليل وبعد يومين مات "أودن"، منزوياً في غرفة مظلمة دون أن يودعه أحد .
مات الكلب "اودن" وفاءً وعرفاناً لأنه لم يجد بجواره من اعتنوا به منذ صغره، مات لأنه شعر أن الحياة بلا معنى عندما يفتقد فيها الصحاب والأهل، مات لأنه لم يعد يسمع صوت عمر الصغير ذو الست سنوات وهو يناديه من خلف الباب باسمه، مات لأنه أفتقد تلك الحفرة التي حفرها بنفسه وسط الأشجار ليهرب إليها من حرارة الصيف .
كان همنا الوحيد أن نبعده لأننا لم نعد نطيق الإعتناء به، بينما لم يرد في خاطرنا أنه أحبنا وتعلق بنا وكره الحياة بدوننا، أبى أن يعيش في مكان أخر وفي حضن أخر ومع أشخاص أخرون...رسالة قاسية لنا جميعاً عندما يعلمنا الكلب الوفاء في زمان افتقدنا فيه الوفاء حتى مع أقرب الناس الينا، وصدق الشاعر إذ يقول :
لماذا نرى الكلبَ فيه الوفاء..و فيه الثباتُ و فيه الولاء
و أمــا ابنُ آدمَ أو بنتُــه ...فإنهما في الخطايا سواء
وثقتُ بكلبٍ شريدٍ أتانـي ...ليطلبَ بعض بقايا الغذاء
و لما استجبتُ و أطعمتُـه ..و رويتُه بعد هذا بمــاء
تكلّم ذيلٌ له شاكـراً ..فقلت: نعم إنّنا أصدقـــــاء
و حين تأكّـد أنّي كريم و أني سمحتُ له بالبقاء ...تقلّد منصبَ حارس بيـتي و هددّ من يعتدي بالجزاء
و رحّبَ بالزائرين جميعـاً ..و ويلٌ لمن يستثيرُ العداء
و ظلّ و فياً لآخر يـوم ...و حين أنادي يجيبُ النداء
و لما مضى سالَ دمعي و ذابت ..حشاشةُ قلبي و غابَ الضيـاء
و لم يأنفَ الشّعرُ من مدحـــه...فكلبي يستحقّ الرثــاء
و أما ابنُ آدمَ لما أطعمتُــه ...وقلت: أخٌ يستحقّ العطـاء
فلما تخلّص من جوعـه ...و آنس في بطنه الامتـلاء
تحولَ من جائع بائــس ... إلى ذئب بر كثير العـواء
و عضّ ذراعي التي أطعمتـه ...فلما رأيتُ نزيفَ الدمـاء
تذكرتُ كلبي الوفيّ و هبّتْ ...على نار حزني رياحُ الشقـاء
لماذا ؟؟ يظلّ السؤالُ و تبقى...علامته في جبين الصفـاء
لماذا عن الناس أبعدَ حـب...و خانوا و لم يشعروا بالحيـاء
كأنّ الخيانةَ صارت لديهـم...طريقَ المعالي و دربَ العُـــلاء
لماذا ؟؟ سألتُ السماءَ و إنّــي...قريباً سأسمعُ ردّ السمــاء