الكاتب : عثمان علام |
05:15 pm 04/01/2024
| 2039
طربتُ لعبدالحليم وهو يقول : لو أني أعلم أن الحب خطير جدا ما أحببت، لو أني أعلم أن البحر عميق جدا ما أبحرت ، لو أني أعرف خاتمتي ما كنتُ بدأت …لكني ما استمعت يومًا لنصيحته.
ولو أدركت قول الشاعر: الجودُ يفقرُ والإقدام قتّالُ، ما ركبت حصان الشجاعة.
وفهمت، نعم فهمت، وما تعلمت عن خطورة ثقافة الشجاعة وشجاعة الكلمة إلا مؤخرًا والحمد لله أني ما تعلمت.
ومنذ ثلاث وعشرين سنة أكتب كصحفي، طال قلمي -بالحق أو هكذا أظن-الكثير من الشخصيات والمؤسسات ، ما جال بخاطري يوما خطورة ما أكتب، ولا من المَعْنِي بالكتابة، ولا لمن توجه هذه السهام النقدية اللاذعة، ولو كنت أدركت عقليًا وذهنيًا عن هؤلاء الذين كنت أكتب عنهم لما كتبت، ولظللت واحدًا من آلاف الصحفيين الخاملين الذين لم يخطوا فى الصحافة قيد أُنملة.
وهكذا قال العراب ، أحمد خالد توفيق : إنها شجاعة الجهل...لولاها لما فعلنا أي شئ ، لأننا نتوقع الفشل من البداية..لهذا لم أندهش عندما قرأت عن ذلك الشاب الأمريكي الذي دخل قاعة المحاضرات متأخراً فوجد على لوح الكتابة معادلة غير محلولة ، نسخها وافترض أن هذه هي واجبه المنزلي .
هكذا عاد لداره وسهر حتي أتم حل هذه المعادلة وقدمها لاستاذه في اليوم التالي ، أصيب الأستاذ بالذهول، وطلب الفتي ليخبره بالحقيقة : هذه المعادلة لاحل لها أو هكذا اعتبر أساتذة الرياضيات عبر التاريخ ، وقد كتبها الأستاذ علي لوح الكتابة كنموذج للمعادلات مستحيلة الحل....الطالب الذي لم يعرف هذه الحقيقة حلها في ليلة واحدة !
وفي مطلع عشرينيات القرن الماضي، وبينما كان هناك من يتحسسون الكلمة ويدركون خطورتها ، كتبت عن يوسف بطرس غالي وعن صفوت الشريف وكمال الشاذلي وحبيب العادلي ومحمد كمال وعلي الدين هلال وهاني هلال وحسين كامل بهاء الدين وسامح فهمي وحسن يونس، وغيرهم الكثير من الوزراء، كنت صحفي تحقيقات، أضع عنوانًا للتحقيق وأكتبه، أبحث عن المشاكل وأكتب عنها، حتى فى الصحافة التليفزيونية عندما شغلت مدير تحرير برنامج صباح الخير يا مصر، وكان البرنامج الأول فى التوك شو، الرئيس الراحل مبارك كان لا يشاهد سواه.
في إحدى المرات استضفت المستشار عدلي حسين وكان محافظًا للقليوبية، صورت سور مدرسة تحيط القمامة به من كل مكان، بينما كُتب على السور "مدرستي جميلة".
قبل بدء الفقرة سألني عدلي حسين عن ماذا سأتحدث ؟ قلت له عن خطة المحافظة والمشاكل التي تعاني منها مدن القليوبية، وعرضت عليه التقرير الذي أُعد مسبقًا، هاج الرجل وماج واتهمني بأنني أنتمي للإخوان وفر هاربًا من البرنامج.
اتصلت بكل الصحف في مصر، لأبلغهم بهروب عدلي حسين من البرنامج لرفضه مناقشة مشاكل الناس، وبالفعل تم نشر الموضوع وتحرك البرلمان وتم تقديم طلب إحاطة للمحافظ.
المحافظ بدوره اشتكى لوزير الإعلام في هذا الوقت السيد أنس الفقي، الذي كان يعرفني ويعلم أنني عضو بارز في الحزب الوطني، وضحك عندما أبلغته أن عدلي حسين قال: "التليفزيون باظ بعد صفوت بيه ما مشي"، وطلب الفقي عدم استضافة عدلي حسين مرة أخرى.
هذه معركة لو كنت أعلم تداعياتها مسبقًا لما فعلت ما فعلت، ولقبّلت حذاء عدلي حسين خوفًا مما حدث، فالرجل صعد الأمر للرئاسة، لكنهم كانوا أشد لطفًا منه بي، ويبدو أنهم كانوا على علم بالإهمال الذي حدث للقليوبية في عهده.
آلاف الموضوعات كتبتها ولم أفكر عن تداعياتها فيما بعد، ولو كنت وضعت هذه التداعيات في عقلي لما أقدمت على مهاجمة وزير أو خفير، ولما هاجمت زوجة فلان ولا ابنة فلان ولا فساد فلان، ولو لم أمتلك شجاعة الجهل، ما كتبت عن الفساد الذي بات البعض يصفه بأنه يصدر صورة سلبية عن البلد وأنه يعطل الاستثمار ويضربه في مقتل.
منذ سنوات، كتبت عن فشل رئيس إحدى الشركات القابضة ورئيس هيئة الثروة المعدنية الأسبق، لم يسمح لهما كبريائهما وفشلهما الحقيقي بالسكوت، فتقدما ببلاغ ضدي يتقولان فيه بأنني عطلت الاستثمار وضربته في مقتل، وهذه ألعاب بعض المحامين التي نفهمها نحن الصحفيين، وعندما ذهبت للتحقيق طلبت من وكيل النيابة -وكان شابا خلوقا منصفَا- أن يأتوا بالمستندات الدالة على ما يقولون، وأن يجرجرهم للتحقيق ليثبتوا صحة كلامهما، وللأسف خاف كلاهما، ووكيل النيابة قال لي: إنه لا يوجد فى القانون ما يثبت كلامهما، فمن مهمة الصحفي محاربة الفساد والكشف عنه.
وبعيدًا عن هذه الأمثلة، فأنا لو كنت أعلم بما سيحدث ما كتبت، ولظللت خاملًا إلى الأبد، هكذا كان يفعل بعض الزملاء ولا يزالون يفعلون، هم يخشون طيلة الوقت ما سيحدث لهم، يتحسسون خطواتهم خوفًا من أن تدوس أقلامهم شخصًا مهمًا أو حتى زوجة رجل مهم.
ولو كنت تخليت عن شجاعة الجهل فى البدايات وعلمت وفكرت في مدي صعوبة ما أنا بصدده ، وبعدده لفشلت قبل أن ابدأ ، شجاعة الجهل كانت الطريقة الوحيدة الممكنة للنجاح ، ولو حاصرتني أشباح المخاوف قبل أن أبدأ لخرجت تلك الكلاب السوداء المفترسة لتمزقني قبل ان أخطو خطوة واحدة !
لكنك لا يمكن أن تتحلى بشجاعة الجهل طيلة حياتك، التجارب تعلمك، بل إنها تجعلك أشد جبنًا من ذي قبل، بل إنها تحولك لمومياء تحركها أيادي البعض، فتكتب ما يروق لهم ولا تجرؤ على النقد، ليس لشيء، إلا لأنك علمت وعرفت وما عدت تتحلى بشجاعة الجهل.
ومع إيماني الراسخ بالله، وأنه لن يفعل بك أحد إلا ما قدره الله لك، فدائمًا أتحلى بشجاعة الجرأة، فلم يعد لدي مصطلح (شجاعة الجهل)، لقد فات الوقت وعلمت، إذا لدي شجاعة الجرأة، أكتب ما أراه مناسبًا لأن يُكتب، وأسكت عندما يتطلب الأمر السكوت، ولن يأخذ روحك إلا من خلقك.
#حكاوي_علام عثمان_علام