الكاتب : عثمان علام |
04:46 am 07/10/2021
| 4066
المزاج العام عندي متوقف عند حد معين ووقت معين ، لا أسمع سوى أغاني معينة ، لا أصادق إلا أشخاص قليلون ، الجمال بالنسبة لي ليس كذلك الجمال الذي يحكي عنه العامة ، قد لا تتفق شخصيتي مع الكثيرين ، ليس لأنني محب للتفرد ، لكن لأنني دقة قديمة بعض الشيئ ، حياتي تتوقف على ذكرياتي دائماً ، إذا سرت في طريق أتحسس ماضيه قبل حاضره ، إذا جلست مع أحبابي أتذكر ماضيهم وليس حاضرهم …أشياء كثيرة ربما تجعلني شخص لا أطاق أحياناً ، وتجعلني متفرد أحياناً أخرى .
تخيلوا أنني وحتى وقتٍ قريب ربما حتى منتصف الثلاثينيات من العمر ، كنت أحسب أن اغنية نجاة "حلوة يا بلدنا"، من الأغاني العاطفية التي لحنها كمال الطويل ، أغنية للطرب وانتظار عودة الحبيب ، وليس عودة الوطن .
وكيف لصاحب لُب أن يتصور عكس ما تصورت ، ونجاة تقول "حلوة حلوة يا بلدنا ..أيوا أيوا يا أولادنا ..جينا في ميعادنا والله جينا في ميعادنا.
لم يكن الإحساس مختلفاً تجاه أغاني فايزة وعبدالوهاب وعبدالحليم وأم كلثوم ، وكل ذلك الجيل الذي تغنى في حب الوطن بكلمات أشبه بمناجاة المحبوب واستمالة القلوب وشد ازر المكلومين ضحايا الغرام .
عبدالحليم حافظ غنى ، "العهد الجديد"، وهو أول نشيد وطني غناه في حياته ، و"إحنا الشعب"، وهي أول أغنية للرئيس جمال عبدالناصر، بعد اختياره شعبيًا لأن يكون رئيساً للجمهورية سنة 1956،وتغنى بـ"حكاية شعب"، ثم "الجزائر" ليحيي فيها كفاح أهل الجزائر الذين نالوا استقلالهم في نفس العام، و«مطالب شعب» بمناسبة العيد العاشر لثورة 23 يوليو ، وغنى"صورة"، و"عدى النهار" و"أحلف بسماها" و"البندقية اتكلمت"، و"عاش اللي قال"و"صباح الخير يا سينا" و"النجمة مالت على القمر"، و"المركبة عدت" .
ثم من فينا لا يُطرب لسماع فايزة أحمد وهي تشدو : يا بلادى يا بلادى .. بحبك يا بلادى..يا مصر بحبك ..بحبك يا مصر..بحبك وقلبى ..مرفرف فى جنبى…فى لحظة ما اقولك ..بحبك يا مصر ..يا مصر بحبك ..بحبك يا مصر.
ثم أنني لا أستطيع مقاومة كل الأغاني الوطنية التي كُتبت قبل وبعد 73 ، فصوت شادية وهو تشدو "بلدى يابلدى" ، يا حبة عيني يا بلدي يا أبويا وأمي وولدي يا عزيز عيني وعيني بتحرس بلدي ، وأيضاً "بلد السد" "أصلي حكيت له حكاية بجد حصلت لما رحنا نزور بلد السد أبو باب مسحور اللي بيبني الهوا والنور واللي هيروي الأرض البور بلد الخير وبلد السعد".
وكيف لي أن أقاوم "يا أم الصابرين" والتي عبرت فيها شادية عن أمهات الشهداء في مصر ، وأغنية "يا حبيبتى يا مصر" وهي من أشهر الأغانى التي يرددها حتى الآن كل المصريون فى مناسباتهم الوطنية .
ما هذا الجمال الذي ترونه في كلمات عبد الوهاب محمد وألحان جمال سلامة "مصر اليوم فى عيد" التي قدمتها شادية .
ثم كيف ننسى شريفه فاضل وهي تقول: "ابني حبيبي يا نور عيني ..بيضربوا بيك المثل" ، لم تكن مجرد أغنية ، بل رثاء لكل سيدة فقدت زوجاً أو ابناً أو اخاً ، وأولهن من تغنت بالكلمات .
وقد جاءت فكرة هذه الأغنية عندما سيطر الحزن على السيدة شريف فاضل ، بعد استشهاد ابنها وبعد 3 أشهر طلبت من صديقتها الشاعرة نبيلة قنديل، أن تكتب أغنية عن أم بطل، وكانت تقصد بها كل النساء اللاتى فقدن أبنائهن فى الحرب ، أو أولئك اللى عاشوا وشاركوا فى صنع النصر خاصةً وأن كل الأغنيات كانت تتغنى للحرب. سألتنى: هل أكتبها عن أم شهيد؟ قلت لها: لا، أريدها أن تصل لأمهات كل الأبطال اللى شاركوا فى حرب أكتوبر، من استشهد منهم ومن نجا.
وقد روت شريفه فاضل هذه القصة قائلة : دخلت نبيلة غرفة ابنى الشهيد، لعدة دقائق، ثم خرجت وفى يدها ورقة بكلمات الأغنية ، التى هزتنى بشدة، وشعرت بأنها تعبر عنى بالفعل، فقط طلبت منها تعديل شطرة: "بيضربوا بيك المثل"، رأيتها غير مناسبة ، إلا أن الشاعرة نبيلة تمسكت بها ووقتها كان زوجها ، الملحن على إسماعيل ، حاضرا ، فأخذ الكلمات وتوجه لمنزله ، وعاد اليوم التالى بلحن شديد الإتقان، لم أطلب تعديل جملة موسيقية واحدة، وفى اليوم الثالث كنت في ماسبيرو لتسجيلها، فرحب "بابا شارو"، والذي كان رئيساً للإذاعة وقتها، وأمر بدخولى الأستوديو فورا.
وتقول كلمات الأغنية: ابني حبيبي يا نور عيني ..بيضربوا بيك المثل
كل الحبايب بتهنيني ..طبعا ما انا ام البطل
يا مصر ولدي الحر ..اتربى وشبع من خيرك
اتقوى من عظمة شمسك ..اتعلم على ايد احرارك ..اتسلح بايمانه واسمك
شد الرحال ..شق الرمال ..هد الجبال .. عدى المحال
زرع العلم ..طرح الامل ..وبقيت انا .. ام البطل .
وعقب نكسة 5 يونيو 67 أخذت الدولة على عاتقها بمختلف توجهاتها السياسية والحزبية والاجتماعية رد الاعتبار من العدو الغادر بشكل أو بآخر كل في مجاله، وقبل حرب السادس من أكتوبر خاضت مصر معركة عنيفة جدًا خلال فترة صعبة من تاريخها المعاصر سميت بحرب الاستنزاف.
ضحت مصر خلال حرب الاستنزاف بالغالي والرخيص من أجل العمل على عودة الروح مرة أخرى للجنود المصريين، أعداد الشهداء كانت بالمئات أثناء خوض غمار هذه الحرب الشرسة لاستعادة الهيبة والكبرياء، لم يكن الفن المصري آنذاك بعيد عن ما يحدث سواء كان بالأغاني الحماسية التي ألهبت حماس المصريين، أو بالأفلام الوطنية التي جسدت البطولات المصرية المختلفة، لكن واحدة من الفنانات التي شاركت مثل مثيلاتها في هذه الحرب من خلال فنها قدمت بالإضافة إلى الفن تضحية كبرى من خلال نجلها الأكبر وفلذة كبدها الذي وهبت روحه فداء لأرض مصر، أنها الفنانة شريفة فاضل التي جسدت ملحمة وطنية عظيمة من خلال أغنيتها الخالدة «أم البطل»..
ورغم مرور 48 عام على أغنية «أم البطل» إلا أنها كانت ومازالت حتى الآن واحدة ضمن أعظم الأغنيات التي خلدها التاريخ الفني، مازلت الأبدان تقشعر فور سماعها، في أي وقت، كما أنها تثير البهجة والعواطف الجياشة داخل نفس كل أم بقي نجلها على قيد الحياة بعد أن أدى واجبه الوطني على أكمل وجه.
تحية لكل الأبطال ، وتحية لكل من كتب كلمات الهبت الحماس الوطني واشعلت الأمل فى النفوس ودعمت الوطنية لدى الشعب ، ورقت لها القلوب ولانت لها العقول ودمعت لها العيون .