11:38 pm 04/10/2021
| 4913
أمس لم يتطاول الليل ولم يسود جانبه ولم يؤرقني فيساً ولا واتساً أتصفحه .
استيقظت من النوم على رسالة : عدنا أخيراً ، بعثها مارك بعد خسارته 20 مليار دولار في خمس ساعات بسبب توقف فيس بوك ، حسب تقرير صحيفة الاندبندت ، ثم الناس راحوا يقلدونه ويقولون نفس الجملة ويبعثون نفس الرسالة ، وكأن غياب الواحد منهم هو الذي عطل أعمال البشرية ، يا سادة غياب اختراع مارك هو الذي فعل ذلك ، أنتم مجرد وسيلة ووعاء يصب المكاسب في حساب مارك .
كانت الساعة الخامسة و36 دقيقة ، انقطع اتصال وسائل التواصل الاجتماعي وانا في محطة الوقود ، في هذا الوقت صدرت حركة تنقلات قيادات الشئون المالية بشركات البترول ، حركة نشرت ملامحها منذ يومين ، لكن يبدو أن الحركة جارت على حق البعض ، "فدعا ربه أني مغلوب فانتصر "، فتوقف الفيس والواتس حتى تصبح النار رماداً وتهدأ النفوس .
نشرت الخبر ولم نستطع ارساله عبر الفيس بوك ولا الواتس اب للقراء الذين تعودوا على ذلك ، هم لا يتكبدون عناء تصفح المواقع ، فقط اعتادوا الضغط على اللينك لقراءة ما تريده لهم ، أو ما يريدونه هم ، هم أحرار أيضاً ، طبعاً ليس بالقدر الكافي ، وجميعنا أيضاً .
وما بين هذه الرحلة والوصول للمنزل ، تلقيت مئات المكالمات ، من السهل أن ترد وأنت سائق ، ومن الصعب أن تكتب ، قولت : يا سلام دا الفيس كان رحمة ، وهكذا الواتس ، ثم عدت ورددت : دا الفيس والواتس كانوا نقمة ، على الاقل سمعت صوت الكثيرين ممن اعتادوا ارسال رسائلهم على هاذين التطبيقين .
هرولت مسرعاً لاحتسي حجرين من الشيشة ، مضى على عدم التدخين ساعات طويلة ، بالفعل وصلت لوجهتي المعتادة ، جالساً على الكرسي وانا مطمئن ، قلبي مرتاح وذهني خالً تماماً من وساوس أن يحقق غيري سبقاً صحفياً أو أن يصدر بيان فلا الحقع ، أو ينشر أحد خبراً قبلي ، هكذا ساعدتني وساوسي أن اترك الهاتف على الاريكة ، وأستمتع بدخان الشيشة واحتضنه حتى لا يطير .
فجأة اردد مع نفسي: استغل بقى هذا الهدوء وأذهب للخلود للنوم الهادئ ، فقد كان يوماً شاقاً ،انطلق يا فتى وانت مطمئن أن لا رسالة ستقلقك ولن يقوى أحد على نشر ما يزعجك ، ليست هناك وسيلة تعمل ، إذاً الخلود للنوم والنوم العميق ، فلن أرضى بأقل من ذلك.
بالفعل صليت العشاء ، ورفضت أن أشاهد "النوم فى العسل"، وقولت : أحسن شيئ استفيد بصحتي وأنام وهذا أفضل من "النوم فى العسل".
ولأول مرة منذ سنوات ، أنام مستلقياً على الأرض دون قلق ، نوم عميق لم تزعجني فيه الأحلام ، وكأن الهاتف الذي يحمل الفيس والواتس ، وكل وسائل التواصل الأجتماعي ، يحمل معه أيضاً الكوابيس والاحلام المزعجة ، نمت وليس هناك ما اقلق عليه ، ليس هناك ما يعكر صفو المزاج ، ماذا سيحدث ؟، لو أن هناك حدث جلل سيتصل الجميع بي تليفونياً ، الذين يستخدمون وسائل التواصل يبعثون الغث والثمين ، لا يفرقون بين الاوقات ولا الاشخاص ولا المسئوليات ، هم جبناء للدرجة التي تجعلهم يرسلون لك ألف رسالة فى اليوم ، ولا يتحدثون اليك دقيقة واحدة .
قبل النوم ، فكرت قليلاً عن إيجاد وسيلة للتواصل اذا استمر الأمر على هذا النحو ، نعم أكره هذه الوسائل ، لكنها لغيري وسائل ترفيه وبالنسبة لي وسائل عمل وأكل عيش ..ماذا لو تكرر الأمر وذهب الفيس والواتس بلا رجعة .
قولت في نفسي اعتقد أن توزيع الصحف سينتعش من جديد ، والكتب سيعود مجدها ، سأتكبد فاتورة مكالمات هائلة ، لكني سأسمع شبه يومي صوت إخوتي وأصدقائي ، يبدو أنني لن أجد معجبين ومعجبات مرة أخرى ، فلن يراني أحد على شاشته مرة أخرى ، لن استطيع أن أنشر مقالي عن الحب وسيدات الأربعون والحب بعد الخمسين والحب بعد الزهايمر والحب بعد توقف الفيس بوك ، كل هذه الأشياء لن يعود بمقدوري فعلها ، إذاً كيف سيكون الحال ؟
لا شك أنني كنت متعب جداً من الطريق والاستيقاظ مبكراً ، ومن آهات ضحايا حركة الشئون المالية ، ومن ضحايا كل الحركات التي ستصدر فيما بعد ، الأحزان لن تنتهي ، والذي لا ينظر إلى كم الموتى الذين يرحلون يومياً دون إنذار ، لا شك أنه لن يرتدع أبداً ، وسيظل يجور على حق غيره وسيظل ساعياً لاستقصاء غيره ، وهكذا الحياة لا شيئ فيها يسر .
لكن أهم ما في الأمر ، أنك طالما تجردت من أشياءك أصبحت إنساناً حر ، تخيل أنت فقط بدون فيس بوك وواتس ، قد نمت لساعات دون قلق ولا أرق ولا تفكير ، ما بالك أنك بلا مال ولا هموم ولا زوجة جميلة ولا أبناء أشقياء ولا نزاعات على منصب ، تخيل أنك لا تنتظر حركة الترقيات اللعينة ، ولا تنتظر العلاوة ولا تنتظر الأرباح ، تخيل أن كل الأشياء التي تتحدث فيها وتشغل حيزاً من تفكيرك ، بل تشغل كل تفكيرك وترهقك وتجلطك وتجعلك تلجأ للمسكنات والمنومات ، باتت فارغة وليس لها وجود ، تخيل كل ذلك …اعتقد أنك ستنام هادئً مثلي ، وستمر على الصراط مرور الطير ، فالذين لا يملكون من متع الحياة هكذا سيكون حالهم .
سأل الرشيد ما هو الصراط المستقيم؟ ، عجز الجميع عن الإجابة إلا بهلول أعقل المجانين ، لكنه طلب من الخليفة إجراء تجربة ، وأتى بماء ساخن ، ووضع قدميه فى الماء ، ثم قال: أنا أبا وهب البغدادي ، طعامي الشعير وشرابي الماء ولباسى الصوف ، ثم طلب من الرشيد أن يحذو حذوه ، فما أن وضع الرشيد قدميه فى الماء حتى أخرجهما ، وقال: ويحك أتريدني أن أظل فى هذا الماء الساخن واعدد لك طعامي الذين يربو على المائتي صنف ولباسي الذي يزيد على الثلاثون ؟.. قال له بهلول: هكذا يكون الصراط المستقيم .
وهكذا تكون فائدة التخلي عن الأشياء ، وفائدة اختفاء الفيس بوك .