للاعلان

Sun,24 Nov 2024

عثمان علام

المتمرد الأبدى.. لوتس عبدالكريم تروى ذكرياتها مع إحسان عبدالقدوس

المتمرد الأبدى.. لوتس عبدالكريم تروى ذكرياتها مع إحسان عبدالقدوس

الكاتب : عثمان علام |

07:26 pm 03/01/2019

| منوعات

| 2544


أقرأ أيضا: Test

عندما يحل شهر يناير من كل عام، أتذكر أحبائى الذين رحلوا، وخلَّفوا الأثر الجميل فى الثقافة والفن والحياة والحب والسياسة، بدءًا بصديقى الرائع الكاتب إحسان عبدالقدوس «١ يناير ١٩١٩- ١٢ يناير ١٩٩٠»، الذى كنا نقضى فى منزله ليلة أول العام «رأس السنة»، مرورًا وختامًا بكثيرين آخرين. كنت أحضر هذه الليلة أينما كنت- إذ أترك مكانى فى لندن أو الكويت أو الولايات المتحدة الأمريكية، وآتى إلى منزله فى الزمالك، حيث الاحتفال السنوى الكبير الذى يحضره الأصدقاء من كل الاتجاهات والمشارب- لأنها تصادف عيد ميلاده. ولا أظن أننى- منذ رحيله- قضيت أو استمتعت بشىء اسمه رأس السنة، فقد مضت سنوات عديدة دون أن نحظى بكلمة من كلماته، ودون أن تحمل إلينا سطوره الصدق والثورة والانفعال الصريح بمشكلات الوطن والأسرة والناس. إحسان النقى القوى، والصديق الناصح الأمين، والكتاب المفتوح على أجمل الصفحات، الإحساس المفعم بحب الحياة، والخيال الجامع الملهم المستطلع لأغوار النفس، المفكر المحلل لأدق أحاسيس البشر خصوصًا المرأة، السياسى المناضل الثائر دائمًا للحق فى سبيل الوطن.
لن أنسى إحسان.
لن أنسى ما حييت إحسان.

الصفات: فنان دقيق الأحاسيس.. طفل صريح القسمات يفضح ظاهره باطنه.. ويستمتع بـ«لذة الإنصات»

كان لقائى الأول به فى منزل الصديق العزيز الأستاذ يوسف السباعى بالمقطم، سنة ١٩٧٥، وكانت دعوة على العشاء حضرتها الفنانة فاتن حمامة.
وجلست كعادتى أتأمل الحضور وأقارن بين الأديبين وكذلك زوجتيهما.
يوسف وابتسامة لا تفارق وجهه يروح ويغدو نشيطًا فى بساطة وعفوية ومرح يشع حبًا وحنانًا.. إحسان متجهم شارد يبدو عليه الملل والضيق يشارك حينًا بالحديث وينصرف أحيانًا فى تفكير عميق.
أما «دولت»، زوجة يوسف، فهى خجولة منطوية تجلس فى ركن لا تغادره.. قليلة الكلام.
و«لولا» زوجة إحسان متحركة نشطة تقوم هى بواجب الضيافة، فتقدم المشروب والأكل وكأنها فى بيتها.. اجتماعية تعرف كيف تدير دفة الحديث.
وتحوّل اهتمامى كله فى تلك الأمسية إلى إحسان، أحسست بأننى حيال فنان دقيق الأحاسيس، وطفل صريح القسمات يفضح ظاهره باطنه.. حين يتحدث يشرد فى تركيز شديد وإحساس بما يقول.. وحين يبتسم فمن الأعماق ابتسامة صافية لمن يبادله الرأى أو يهتم لرأيه.. وحين لا يعجبه الحوار فهو صريح مجابه معارض إلى حد الإيلام.. وحين لا يثير اهتمامه أحد لا يكترث لوجوده أيًا كان.. لا يجامل ولا ينافق ولا يفتعل إعجابًا أو احترامًا ليس بداخله.. صادق صريح عنيف.. لكل هذه الأمور صممت على صداقته.
أما «لولا»، زوجته، فهى نقيضه المكمل والمنظم لفوضى مشاعره.. هادئة.. عاقلة.. مجاملة.. تبتسم للجميع.. تلطف من عنفه.. وتخفف من حدته.
هى العاطفة، وهى العقل.. هو الفن، وهى الفكر.. هو القلق وهى الاستقرار.. هو الفوضى وهى النظام، هكذا كان يكتب عنها كثيرًا ويتحدث، فكان حبهما دائمًا شعلة لا يخبو لها أوار.
لقد كان حدثًا كبيرًا لقائى به فى أدق مرحلة من مراحل حياتى.. فكان الصديق وكان الصدر الواسع، والطبيب المستمع الصبور المتفهم، والمستوعب والمعالج بسماحة وذكاء وإخلاص نادر.. كم واجهنى بثورته وكم استفدت من أفكاره ونصائحه، وكم ألقيت على كاهله حمل مشاكلى وحيرة سبلى فكان خير مستجيب.
أبدًا لم أقابل فى حياتى إنسانًا يستمتع بلذة الإنصات والاستماع دون تذمر مثل إحسان، وكأن وظيفته الإنصات والتأمل والتحليل ثم الكتابة، إنه يعيش الآخرين ويكتب.
أذكر أول لقاء لنا فى منزله حين قال لى: «كلى آذان صاغية تكلمى، عايز أعيش حياتك، أعيشك».
إنه يستحث ويشجع ويلح ويدفعك دفعًا إلى الاعتراف الكامل، وكأنك فى محراب الاعتراف أمام كاهن ترجو أن يسهل لك المغفرة.
وهكذا عرفت إحسان.
لا أنسى الزيارة الأولى لهما (إحسان ولولا).. ذات مساء ذهبت إلى عمارة «الأونيون» وهى عمارة شاهقة قائمة فوق نيل الزمالك والمصعد يحملنى إلى الدور العاشر.. أصيصان من الزرع يستقبلانى عند مدخل الباب المكتوب عليه بالبنط الصغير جدًا «إحسان عبدالقدوس».
أدق الجرس ثم يصحبنى الخادم بعد أن يسألنى: المدام.. ولّا البيه؟ وحين أجيبه «البيه» يسير بى فى ممر طويل حتى آخر غرفة فيه.
هنا غرفة مكتب إحسان.. صومعة الفن والخيال.. مهبط الوحى وتسجيل الإلهام.. مكتب كبير وأريكة وفوتيهات.. ثم كتب وتماثيل وتحف ولوحات.. وتسترعى انتباهى لوحة زيتية «بورتريه» تحتل جانبًا من المكان لسيدة رقيقة جميلة العينين.. إنها «لولا» زوجته مصدر الإلهام أو الأساس أو المحور. أو «الحياة» كما سماها فى إحدى قصصه.
فى الفراندة الواسعة التى تشرف على النيل وأسقف أبنية القاهرة.. استقبلنى إحسان بابتسامة طيبة وترحيب.. و.. أفاجأ مرة أخرى بشىء جديد فى تلك الشخصية الغريبة.. أفاجأ بالخجل والحياء غير المصطنع وكأننى أمام طفل بحاجة لمن يأخذ بيده ليتحرك.

الجد «شيخ» يحرص على الدين والحجاب بالنسبة للمرأة.. والأم متحررة لا يشهد جلساتها إلا الرجال

ياللتناقض.. الحدة والعنف إلى حد الثورة فى جانب والخجل والحياء والمحافظة فى جانب آخر.
يقول إحسان: «أنا دائمًا أقول عن نفسى إننى نصفان: نصف خيالى وفنى صرف، هذا النصف ورثته عن أبى الفنان محمد عبدالقدوس، أما نصفى الآخر فهو واقعى يعيش الحياة بحلوها ومرها، ذلك النصف الواقعى ورثته عن أمى السيدة روز اليوسف».
وقد تربى إحسان فى ظل أسرة محافظة بطلاها جده الشيخ رضوان وعمته نعمات هانم، وهى بيئة تقليدية تحرص على الدين والحجاب بالنسبة للمرأة، وفى هذه الفترة دخل الكتّاب وحفظ بعضًا من آيات القرآن، وكان يلحظ كم تقف أسرته بشدة ضد كل خروج عن آداب الدين والتقاليد، كما لاحظ الطفل الصغير مدى التباين بين نوع الحياة فى بيت جده ونوع الحياة التى تعيشها أمه الفنانة المعروفة ثم الصحفية، وقبل هذا كله امرأة متحررة لا يشهد جلساتها إلا الرجال، تصادقهم وتحاربهم وتعمل معهم وتكافح.
يقول إحسان:
«كان الانتقال بين هذين المناخين يصيبنى فى البداية بما يشبه الدوار الذهنى لكنى استطعت التوفيق بين هذه المتناقضات فى حياتى بحيث لم تفسد شخصيتى كإنسان ولم تقض على مواهبى كفنان وأديب بالحب.. الحب هو الذى أعاننى على مواجهة كل التناقضات فى حياتى الأولى.
بل وطوال مسيرتى بعد ذلك كنت أحب جدى، وكان هذا الحب يفرض علىَّ كل أنواع الاحترام تجاه جدى العالم المتدين الزاهد فى الدنيا.. كنت أحب قيمه وتقاليده التى كان يفرضها علينا، وعلى الجانب الآخر كنت أحب أبى وأمى مدفوعًا أولًا بعاطفة البنوة، ولقد دفعنى هذا الحب الذى كنت أكنه للقطبين المتنافرين فى حياتى إلى التعمق فى معرفة وإدراك وجهة نظر كل منهما، بحيث يمكننى الدفاع عنه فى مواجهة الطرف الآخر».
وهذا يؤكد وسيلته، وهى الحب الذى يساعده على أن يحترم وجهات النظر المختلفة.
لقد أحب إحسان الحياة والطبيعة والوطن والناس والخير والجمال بل كانت صناعته هى الحب.
لقد طوّر الصحافة بالحب وكتب السياسة بالحب وأبدع القصص بالحب وعاش كل مواقفه بالحب.

الزوجة «لولا» دائمًا واقفة فى المنزل لتلبية طلباته وتعامله كطفل مدلل دون تململ أو تذمر

فى لقائى الأول مع «إحسان» رأيت «لولا».. سمراء تميل قليلًا إلى القِصر، تشد شعرها الأسود فوق رأسها وتعقصه إلى الخلف كأنها تحمل تاجًا توّجَها به الليل من فرط احترامه لها.. وجههًا مريح.. ليس جميلًا ولكنه مريح.. تحب أن تنظر إليه ولا تشبع من النظر إليه.. وتشع حولها شخصية قوية وذكاءً طيبًا وحبًا هادئًا.
هى لا تجلس أبدًا.. دائمًا واقفة أو غادية رائحة تلبى طلبات إحسان التى ليس لها آخر.. «قومى هاتى كباية تانية.. فين العيش.. حطى لى ميه تانى.. أنا عاوز جبنة.. افتحيها.. فين التلج.. إلخ».
وهى تعامله كطفل مدلل دون تململ أو تذمر.. وشعرت بالتقدير والإعجاب لهذه السيدة العظيمة فى مشاعرها.. إن وراء عظمتها هذه سرًا كبيرًا وحبًا كثيرًا استطاعت به حمايته ورعايته وإنقاذه من نفسه القلقة المتذمرة والتغلب على كل ما مر به من ظروف غير عادية.. إنها تبدو واسعة الفهم شديدة الذكاء.. قلت لها بفضول: لا شك أن الحياة الزوجية مع فنان كبير تتطلب مجهودًا خاصًا وموهبة فذة.
أجابتنى: «لا يوجد رجل بلا عيوب ومش مهم عيوبه أد إيه.. المهم تقدرى تستحملى أد إيه».
يا له من رأى.
وفهمت قدر احتمالها الكثير بل طاقتها على الاحتمال.
وبدأت صداقتنا واستمرت عبر كل هذه الأعوام، ظل هذا البيت مفتوحًا لى وهذه القلوب ملتفة حولى، أطرق الباب فى أى وقت من الليل أو النهار، أحيانًا بلا ميعاد وأقابل بالترحيب والفهم الشديد وكأنى واحدة من أفراده.. هكذا كان إحسان ولولا فى معاملة كل أصدقائهما من الفنانين أو الساسة والأدباء حتى الناشئين والصغار.
وفى المصيف عرفت «لولا» أكثر.. كانت تحيطه باهتمامها وتحترمه وتدلله وتتحمل ثورته وتفهم تقلبه فى هدوء وعقل وابتسامة دائمة مهما حدث.
حادث قصير عابر فى ذات المكان مر بخاطرى فشد اهتمامى.
«لولا» هيا بنا نسبح فى البحر!
إنها عادة إحسان- كما عرفت- السباحة وقت الغروب واصطحاب «لولا» دائمًا معه، فى ثوانٍ سريعة كانا يغوصان بجسديهما بين الأمواج، وبعد خمس دقائق معدودة، فجأة رأيته يعود قفزًا إلى الشاطئ هو يصيح بها «هيا كفى».. لقد غيّر رأيه بعد أن بدأت هى حمامها.
ودهشت- إنها عادت فورًا وقد ابتل شعرها وربما لم تبدأ بعد فى الاستمتاع بالمياه الدافئة.
لم ألمح نظرة ضيق فى عينيها بالعكس وجدتها تبتسم فى راحة حقيقية وهى تنفض شعرها من المياه محركة رأسها يمنة ويسرة قائلة: فترة قصيرة ولكنها ممتعة!
أى إمتاع يا لولا!
لقد حوّلت بمهارة لحظة الضيق إلى متعة وهكذا كانت دائمًا معه.
وأبديت لها إعجابى بموقفها.. قالت: لازم الواحد يقبل الواقع.
كثيرات من النساء أحلن حياتهن إلى جحيم لرفضهن الاعتراف بالواقع، بل والتمتع به.
قال عنها: «رئيس مجلس إدارة حياتى».
فهى فعلًا تدير كافة شئونه صغيرة وكبيرة، وهو لا يعرف عن حياته قدر ما تعرف هى، لذلك فهى المتصرف بحكمة فى حياتهما معًا.
وقال عنها فى مقدمة أحد كتبه:
«الهدوء الذى صان ثورتى
والصبر الذى رطب لهفتى
والعقل الذى أضاء فنى
والصفح الذى غسل أخطائى..».
أى هدوء وأى صبر تملكه هذه السيدة التى استطاعت أن تخوض مع السياسى معارك وحروبًا، ومع الصحفى دروبًا ومتاهات، ومع الفنان أحداثًا ضاربة وتقلبات وخرجت بعد المعاناة بلقب الزوجة المثالية التى قال فيها: «السيدة التى عبرت معى ظلام الحيرة حتى وصلنا معًا إلى شاطئ الشمس والحب فى قلبينا».
حين سألتها عن الأمان؟
قالت: «لا يوجد شىء اسمه أمان ولا ضمان بالنسبة لأى رجل أو أى زواج. 
وكلمة أمان عندى مصدرها الثقة.
ثقة الزوجة بحب زوجها لها.
وهذه الثقة كانت الأمان الذى تنبع منه كل تصرفاتى معه، وكانت الحافز لى على احتمال أى شىء مهما حدث، لقد أحبنى إحسان ويكفى هذا.
إنه كان يسمى كل نزواته قزقزة لب».
أجل لقد كانت «لولا» حب إحسان الوحيد والأول والأخير.

كان يستوحى قصصه مما يرويه عليه الناسد ثم يعيد صياغته

فى المساء كان يجلسنى أمامه قائلًا: «احك لنا كل ما شاهدته فى بلاد العالم التى عشت بها أو عملت بها أو زرتها وأنواع الناس والأحداث»، وأتكلم فينصت باهتمام ويسأل ويستفسر بتركيز شديد. إنه يرى فى كل البشر قصصًا وحكايات وحالات تستدعى الدراسة والتأمل، وقد كنت ضمن هذه الحالات.
يقول إحسان: «كنت زمان- أيام شبابى- أرحب بلقاء كل من لا أعرفهم وكنت أسميهم أصدقاء قراءة واستماع، وهم يقرأون لى وأنا أستمع إليهم، وأغلبية من يلقانى من قراء القصة كل منهم يعتبر نفسه قصة، وكنت أستمع إلى كل منهم وأنا أعلم أنه لن يستفيد كثيرًا برأيى.. وربما لا ينتظر رأيى.. إنما كنت أستمع له كنوع من العلاج النفسى أريحه به، فإن الإفراج عن الأسرار الخاصة التى يختزنها الإنسان فى صدره حتى بمجرد الكلام يؤدى إلى راحة عميقة، وقد استمعت إلى أسرار أعتقد أنها لا يمكن أن تقال لأب أو أم أو لصديق أو صديقة، إنما قد تقال لطبيب نفسى أو لكاتب غريب تقرأ له». يلتقط ذهنه الصور بمهارة غير عادية كما تقول «لولا»: «الريكوردر خلاص سجل»، ثم يعيد صياغتها والتصرف فيها كما يحلو لخياله وتخرج قصص عميقة المعنى، ثلاث من أروع قصصه أستوحاها مما رويت له، وأصبحت أفلامًا سينمائية، وذات مرة كان تحليلى لشخصية عربية عرفتها عن كثب فيما رويت له عن قصتها.. وبلغته الخاصة وتحويره المميز بدأ يكتب وينشر عن هذه القصة فى الأهرام، وكان الأستاذ يوسف السباعى وقتها رئيسًا لمجلس إدارة الأهرام، وثار السفراء العرب عند بدء كتابة القصة واحتجوا.. أى بلد عربى يعنى؟ واتصل به الأستاذ السباعى سائلًا: من أين أتيت بهذه المعلومات؟ فإذا به يجيبه بصراحته المعهودة: من لوتس. وكانت ثورة السباعى علىَّ هائلة وهو يقول: يا مجنونة تبقى منهم وتحكى حكاياهم ولمين؟ لإحسان الذى لا يكتم سرًا وتوقف نشر القصة بالطبع».
ونذكر هنا أن قصته الرائعة «وعاشت بين أصابعه» قيل عنها إنها قصة حياة الشاعر الكبير كامل الشناوى، ولكنها ليست قصته تمامًا- كما يقول إحسان: «إن فيها شخصية كامل الشناوى، ولو أننى نقلت (كامل) بحذافيره لا تصبح قصة، ولكن يخطر على بال القارئ وهو يقرأ خطوط القصة شخصية كامل، ولكن لم أنقل حياته، والتفاصيل خيال ولكنه خيال يعتمد على الواقع، لأن (كامل) لم يفعل ذلك، ولكنه واقع يمكن أن يحدث دون أن يكون شخصًا معينًا هو الذى قام به».
وعن قصة «الراقصة والطبال» يقول: «إن القصة ليست مجرد حكاية، ولكنها أساس مجال واسع لإطلاق الحرية فى الرأى والتصوير والخيال، ومن حقى فى القصة أن أكتب ما أريد لأن القصة تطلق الخيال، وعندما تكلمت عن شادية ونجاة كان ذلك مجرد نقد خاص داخل القصة على أساس أنه رأى الكاتب».

إحسان: أعالج المجتمع حتى من جوانبه الجنسية

قضيت مع «إحسان» و«لولا» أيامًا لا تُنسى بالمصيف فى العجمى، ورأيت كيف يكتب إحسان قصصه. كان يجلس على الشاطئ يتأمل الفتيات السائرات والرجال والأطفال ويقول: «انظرى كل واحد وواحدة من دول وراها حكاية طويلة، فهذه منذ فترة تبحث بعينيها فى حيرة، راحت وجت ثلاث مرات بتدور على حاجة ضايعة. وهاتان صديقتان مبطلوش كلام ٣ ساعات، الظاهر أنه حديث خطير لأنه هامس، وهذا شخص يسير وكأنه يحمل أعباء الدنيا على كاهله..»، فجأة يتركنى ويقفز ويختفى بين زحام الأجساد وكأنه يقول: «وجدتها.. وانطبعت فى ذهنى حكاياتهم.. ولا أعرف دائمًا ما ينوى ولا ما يريد». 
يقول إحسان: «إن فى رأسى وخلف جبهتى تمامًا توجد آلتان للتصوير، واحدة منهما لها عدسة مفتوحة باستمرار تلتقط صور كل المرئيات.. الأشخاص والمناظر والحوادث ثم تمحوها دون أن يبقى منها شىء.. إنها آلة تقوم مقام المصباح الكهربى الذى ينير لك الطريق، أما الآلة الأخرى فعدستها ليست مفتوحة دائمًا ولكنها تفتح فى مناسبات وتحتفظ بالصور التى تلتقطها فى ألبوم خاص فى ذاكرته»، فبالنسبة لإحسان: إن هذا الألبوم الخاص لن يمحى أبدًا من ذاكرته إلى آخر حياته.. وهو يفتح هذه العدسة الخاصة فى مناسبات لا إرادية أى لا سيطرة له عليها.. كلمة سمعها أو لفتة أو خط فى وجه امرأة أو فتاة ليست بالضرورة أهم أو أجمل فتاة.. ولكنه بلا مناسبة يجد ألبوم الصور قد فتح وأطلت عليه صورة قد يكون احتفظ بها من عشرات السنين.. وهذا هو الباب الذى ينفتح أيضًا لقصة أو رواية يكتبها إحسان. ويقول إحسان: «عندما أسافر إلى الخارج فى إجازة فإن معظم وقتى أقضيه على رصيف مقهى وحيدًا.. أنظر إلى المارة كأنى أنظر لى زهور طبيعية نثرها الله على الأرض.. زهرة يثيرنى جمالها وزهرة تثير عجبى.. وزهرة تثير إشفاقى.. ومع كل زهرة أتمتع بأن أترك خيالى يتصور لها قصة.. إن كل فرد بين ملايين البشر له قصة قائمة بذاتها تصلح للنشر.. وأتمتع متعة هادئة بالوقت الذى أقضيه على الرصيف، أتمتع بما يملأ عينى من مناظر الزهور البشرية وبما يملأ خيالى من قصص». 
يعترف إحسان: «لقد جلبت لى هذه القصص من المتاعب قدر ما جلبته لى كتاباتى فى المواضيع السياسية والوطنية، وأثارت حولى من الجدل والتهم قدر ما أثارته قضية الأسلحة الفاسدة وكان يمكننى تجنب كل هذا لو أنى رفعت من كل قصة بضعة سطور، ولكنى رفضت أن يُنزع سطر واحد برضاى، أنا أكتب القصص وأنا أعيش السياسة، وأكتب السياسة وأنا أعيش القصص». وقد نسب البعض السبب فى انتشار قصص إحسان إلى أنها تتعرض للجنس. فيقول إحسان: «إن كاتب القصة كالطبيب من حقه أن يعالج المجتمع ويصوره من جميع نواحيه حتى الناحية الجنسية، دون أن يتعمد أن يكون الجنس هو الموضوع الرئيسى فى القصة». وقد تسببت كتابات إحسان فى كثير من المتاعب لشخصه إلى حد أن بحث مجلس الأمة موضوع قصصه فى جلسة خاصة.. ويذكر فى ذلك: «إننى أستطيع أن أدعى الوقار وأستطيع أن أضغط على قلمى حتى لا يكتب إلا فى حدود نطاق مرسوم، ولكنى لا أريد، لأنى أقوى من الادعاء وأقوى من الكذب وأقوى من أن أخجل من فنى. إننى حاولت فى كتبى أن أكون كاتبًا وأن أكون طبيبًا».

اعتراف صادم: اخترت زوجتى على النقيض من أمى بشكل كامل

سألتهما (لولا وإحسان) يومًا إذا كان هناك بعض ملامح من شخصية السيدة روز اليوسف، والدته، فى زوجته.
وتركتْ «لولا» لـ«إحسان» الإجابة:
قال، بعد أن أخذ نفسًا طويلًا من سيجارة ونفثه فى الهواء:
لقد اخترت فى زوجتى النقيض من والدتى.
اخترت المرأة التى توقف كل حياتها ووقتها للبيت وللزوج بعكس والدتى التى كان الزواج بالنسبة لها أمرًا ثانويًا إلى جانب العمل.. ولم يكن وقتها يتسع حتى لى.
مع ذلك فهناك تشابه حقيقى بين زوجتى ووالدتى، فقد اجتمعت فيهما معًا صفات القوة فى التحمل ومواجهة الأحداث والقدرة على اتخاذ القرارات.
لقد واجهت أمى بشجاعة ما مر بى وبها من هزات ومواقف.. احتملت دخولى السجن وتعرضى للموت والتهديد دون أن تغير من مبدأها أو تحنى رأسها، وكانت كذلك فى كل قراراتها حاسمة حازمة دون تردد أو خشية.
يقول عنها فى إهدائه أحد كتبه: «السيدة صاحبة المدرسة التى علّمتنا الثورة.. إلى أمى وأم كل الثائرين من أجل الحق والحرية.. إلى السيدة فاطمة اليوسف».
كذلك كانت زوجتى «لولا».
لقد واجهتُ الموت عدة مرات وهى إلى جانبى تقاوم معى بشجاعة نادرة وصبر وقوة، اتخذتْ هى قرار زواجنا وأقدمت على الخطوة رغم معارضة أهلها ورفضهم.
هى أيضًا حاسمة فى اختيارها لما تريد وفى تنفيذ قراراتها.
ويكتب إحسان فيقول:
«أنا مدين بالفضل الكامل فى بناء كيانى كله لسيدتين هما أمى وزوجتى- ليس لمخلوق آخر فضل علىّ- ففضلهما لا يقتصر على بناء حياتى الخاصة ولكنهما صاحبتا الفضل الأول فى بناء حياتى العامة، وأيضًا فى تكوين شخصيتى التى كافحت بها، وفى إعانتى على احتمال الصعب وفى اجتياز السقطات، وفى تحقيق ما يمكن أن أكون قد حققته من نجاح، ورغم اشتراكهما فى الفضل فقد كان هناك دائمًا ما يجبرنى على الوصول إلى رأى محدد فى صفات المرأة وفى وضعها الاجتماعى الذى يمكن أن يحقق مثل هذا الفضل، وذلك للخلاف الكبير فى الصفات وفى الوضع الاجتماعى بينهما، بين أمى وزوجتى.. أمى امرأة عاملة.. وزوجتى امرأة ليست عاملة، أيهما يمكن أن تكون صورة لما تدعو إليه كل نساء العالم، هل تدعو كل نساء العالم إلى احتراف العمل.. أم تدعو كل نساء العالم إلى التفرغ لمتطلبات الكيان العائلى؟ قد اكتشفت الفرق بين أمى السيدة فاطمة اليوسف التى عاشت حياتها فى أوسع وأشق وأخطر مجالات العمل العام، وزوجتى التى لا تعمل خارج مسئوليات حياتنا العائلية، كل منهما كان صادقًا فى الاستجابة لحاجته الفعلية.
ونجحت أمى.. ونجحت زوجتى.
ونجد أن «لولا» أو «لواحظ المهيلمى»، زوجة إحسان، قد اختارت الظل، لأن زوجها لم يكن يحب أن تتحدث إلى الصحافة أو غيرها من منابر الرأى العام- هذا رغم اعتراف الجميع بأن «لولا» كانت بالتأكيد أحد العوامل الفاعلة فى «أسطورة» إحسان عبدالقدوس أوسع كتّاب العربية شهرة، خاصة بين صفوف الشابات والسيدات.
وأما خصامها للحديث، عملًا بوصية إحسان، فلم يكن أمامى إلا أن أظفر لها ببعض البورتريهات التى رسمها لها زوجها فى بعض رواياته، وقد رأيت أن قصة «زوجة أحمد» تحوى كمًا كبيرًا من حياة إحسان وزوجته.
يقول إحسان فى «زوجة أحمد»: «زوجتى نموذج فريد للمرأة النادرة الوجود.. شعلة محبة ووهج عطاء خلاق.. عطاؤها بلا مقابل ويكفى أنها تعيش وتكرس كل الظروف وتهيئ كل الأجواء من أجل أن أعمل فى هدوء، ويكفى أنها تتحمل قلقى وتوترى ومعاناتى بصدر رحب.. هى المرأة التى كرست حياتها من أجل أن أكون الإنسان والفنان معًا.
إننى أعجب بينى وبين نفسى كيف ملكت زوجتى كل هذه الطاقة لتتحملنى.. ويبدو لى أحيانًا أننى إنسان لا أُطاق.. وقد أبدو أنانيًا فى بعض الأحيان، ولكننى أقدر زوجتى غاية التقدير، فلولاها ما كان يمكن لى أعمل وأنتج.
وقد ربطنى بزوجتى هذا النوع من العواطف الثابتة التى جمعتنا منذ أن التقيت بها عندما كنت طالبًا فى السنة النهائية فى الجامعة، كان عمرى آنئذ اثنين وعشرين عامًا وكان دافع لقائنا هو البناء والتكامل.. بدأنا من الصفر وتزوجنا رغم معارضة أسرتينا.. وكان اللقاء للبناء واستمرارًا للحياة واستمرت الحياة بيننا.
وكما قلت فإن زوجتى نموذج رائع للعطاء تنسى نفسها فى سبيل تهيئة المكان والظروف لى لكى أكتب وأنتج، فعاطفتى تجاهها بدأت بلحظة البناء والتكامل التى شرعنا فيها معًا.
وهذه الوجهة لا يجدها المرء فى علاقة عابرة مع معجبة أو إنسانة لديها قصة أو موضوع يشغلنى- لهذا فعواطفى الثابتة تجاه زوجتى تزيد مع الأيام فقد فهمتنى لأقصى درجة وتعايشت معى بمواصفاتى وحرصى الحاد على فرديتى ثم طبيعتى كإنسان قلق يخشى دائمًا على إنتاجه ونوعيته وأثره على القراء وصداه فيما بعد».
يقول إحسان «إن مدام كورى مكتشفة الراديوم لا تصلح مثالًا للمرأة لأنها مخلوقة شاذة (أشبه بعجل له رأسان) وأمى روز اليوسف معجزة وحالة شاذة، تركت منزلها وضحت بكل شىء لأنها كانت تمتلك موهبة حقيقية وقدرة خاصة على الإبداع، ولكننى لا أطلب من كل امرأة أن تكون أمى أو مدام كورى.. إننى اعتبر البيت والأولاد أساس مسئولية المرأة وهذا جعلنى لا أتزوج أى امرأة تعمل».

نص رسالة كتبها إلى ابنته «المتخيلة»: الحرية هى الأمان من أخطاء العاطفة

كان إحسان عبدالقدوس مربيًا من الطراز الأول كما كان خبيرًا بارعًا بالنفس البشرية وربما كان محور أعماله كلها هو تربية الناس عامة.. وفيما يتصل بشئون المرأة خاصة، ومن هنا كانت العواطف لا تهدأ من حوله إلا لتثور من جديد.. ذلك أنه كان من المستحيل فى مجتمع تتفاوت أحواله تفاوتًا عجيبًا مثل المجتمع العربى أن يكون هناك رأى واحد حول كثير من القضايا الحساسة بالذات.
وقد صوّر إحسان جانب المرأة الجديد التى تعلمت وخرجت إلى سوق العمل وخالطت الرجال واضطلعت بقرارها فى كل المستويات، خصوصًا فى مجالات الحب والزواج كما كشف عن جانب آخر «المستور» مما يجرى بين الرجال والنساء فى مجتمع تقليدى يتسم فيه الناس بممارسة النفاق الاجتماعى، يتحدثون عن أشياء ويفعلون أشياء أخرى.
لهذا كله هوجم إحسان هجومًا عنيفًا، وكان كثير من الناس يقولون: لو كان له ابنة لما كتب القصص التى يكتبها ولما اعتنق الآراء الجريئة التى يدعو إليها.
وبالفعل لم يكن لإحسان بنت، ولكنه حاول أن يخوض تجربة الأبوة لبنت على الورق. وهى تتضمن- حسب تعبيره- كشف حساب بنظرياته فى الحياة وأجد أنه لا ضير ونحن نتحدث عن إحسان من أن نتأسى به.. وهذه رسالته.
ابنة إحسان
يا حبى الأخير..
إنى أكتب إليك لأعترف، لأكشف لك عن خطة مدبرة أحاطت بك وأنا الذى دبرتها. 
لقد تعودت والدتك كلما عدت إلى البيت وبدأت أخلع ملابسى أن تأخذ فى تلاوة نشرة الأخبار، أخبارك وأخبار أخويك محمد وأحمد.
ومنذ عدة شهور جاء فى نشرة الأخبار أن حضرتك بدأت تهتمين بأحد الشبان تحادثينه فى التليفون ونعتقد أن هذا الشاب هو «مدحت»، وانتفضت.. صدقينى أنى انتفضت فعلًا، لا لأن الخبر أزعجنى.. أبدًا، بل لأنى تذكرت فجأة أنك الآن فى السادسة عشرة من عمرك.. ونحن الآباء نتناسى دائمًا أعمار أولادنا حتى لا نتذكر أعمارنا.. كان اهتمامى يخفى رعشة كتلك التى تنتابنى وأنا طالب مقبل على الامتحان. وأنت تعلمين أنى قضيت عمرى أكتب للناس عن نظرياتى فى الحب والمجتمع، وأطالب الآباء والأمهات بأن يسمعوا الكلام ويوجهوا بناتهم وأولادهم وفقًا له.
وجاء دورى فى الامتحان
وانهلت على والدتك بالأسئلة: متى وكيف وأين وماذا ولماذا؟
ولم أكن أريد إلا أن أعرف شيئًا واحدًا وهو أن الوقت لم يفت وأن عاطفتك ما زالت وليدة أستطيع أن أجرى عليها تجاربى.
واطمأن قلبى.. وبدأت أرسم الخطة، طلبت من والدتك ألا تتدخل فى تصرفاتك ولا تحد من حريتك ولا تحاسبك على أحاديثك التليفونية ولا تستجوبك.. فى نفس الوقت الذى طلبت فيه أن تتعرف على عائلة مدحت وتدعو أفرادها إلى البيت وتقدمه لأخويك، ووعدتها من ناحيتى أن أحاول التعرف على والد مدحت وكسب صداقته. 
ماذا كنت أريد؟
كنت أريد أن أثبت لنفسى أن الحرية هى الأمان الوحيد من أخطاء العاطفة، وقد كانت البنات قبل أن نولد يعشن خلف مشربيات، ولكن هذه المشربيات لم تحمهن من الخطيئة، فكان الحل هو القضاء على المشربيات ومنح البنات حق النظر من الشبابيك ثم الشرفات ثم الخروج إلى الشارع.
وفى كل خطوة كانت الأخطاء تقل والعاطفة تترقى وتتهذب والسعادة تدخل البيوت وكما فشلت الديكتاتورية فى توفير السعادة للشعوب والرقى بها وحمايتها من أعدائها فشلت المشربيات والبراقع وشوارب الآباء والأزواج فى حماية النساء من الأخطاء.. وكما تكثر الاغتيالات السياسية فى عهود الضغط والإرهاب كانت الأعراض تغتال ودماء القلوب تسفك فى عصر البراقع والمشربيات.
ورغم ذلك فأنا لم أترك لك الحرية دون أن أزودك بأسلحتها. 
إن الإنسان الحر يحتاج إلى قوة لا يحتاج إليها الإنسان العبد.. قوة نفسية وذهنية. والحرية ليست فراغًا إنما هى حقل بناء مزدحم بالعمل تحاولين فيه بناء شخصيتك وبناء ذهنك.
وقد زودتك بكل أدوات البناء.. زودتك بالعلم والفن لترى من خلالهما نفسك على حقيقتها.. لترى أنك لست وجهًا فقط أو جسدًا رشيقًا فحسب، ولكنك روح جميلة وعقل جميل.
وقد جمعت الكتب والأسطوانات أشتريها لكم من قبل أن تولدوا، لأنى أؤمن بأن الكتاب والأسطوانة كالبودرة والروج تتزين بهما الفتاة وتزداد جمالًا، وكالعضلات بالنسبة للشاب يزداد بها قوة وشبابًا.. وعودتك على الذهاب إلى النادى لا لتبحثى لنفسك عن عريس بل لترى مجتمعًا فيه كل الأنواع الراقى والواطى، حتى أعرضك من صغرك لتجارب الحياة وأحميك من الفراغ.
وبعد ذلك كان دورى مراقبتك وأنت تبنين نفسك ولم يكن يهمنى مدى ما تحققين من نجاح إنما ما تبذلين من جهد فى تحقيق هذا النجاح.
ولم يكن يهمنى أن تنجحى فى امتحانات المدرسة بقدر ما كان يهمنى أن أراك تنجحين فى تكوين شخصيتك وأنا أعرف كثيرين يحملون شهادة ولا يحملون شخصية.
كنت أريد أن أرى لك شخصية كاملة.
شخصية إنسان حر له كل الحقوق وعليه كل الواجبات ونحن نقول: «المرأة نصف الرجل»، لم نحاول أن نرضيها فنقول إنها النصف الحلو، ولكنى لم أكن أريد أن أراك نصفًا كنت أريد أن أراك «واحدًا صحيحًا»، فإذا اخترت رجلك صرت واحدًا بجانب واحد.. لا نصفًا من واحد.
وإذا سمعت كلامه فلأنك اقتنعت به، لا لأنك تخضعين له، وإذا غسلت جواربه فلأن هذه مسئوليتك فى البيت لا لأنك غسالة، ولا لأنك عبدة فى خدمة السيد، وهذا هو الحب الصحيح.
الحب الذى يجمع بين شخصيتين كاملتين ليس أحدهما عبدًا وليس أحدهما سيدًا.
إلى هذا الحد آمنت بحريتك.
إن العبيد يخطئون كثيرًا فى الوصول إلى الحب ولكن الأحرار قلما يخطئون.
وإنى أعرف فتيات كثيرات توهمن الحب هربًا من السجون التى يعشن فيها، هربًا من الباب المغلق والأب القاسى والأوامر الصارمة، وهربًا من الفراغ الذى يعذبهن ثم يكتشفن بعد فوات الوقت أنهن لم يهربن إلى الحب بل إلى الخطيئة، لهذا كله طلبت من والدتك ألا تقيد حريتك.
لماذا سعيت إلى التعرف على عائلة مدحت؟
صدقينى إننا لم نستمتع لا أنا ولا والدتك بمعرفتهم، ولكن حكمى وحكم والدتك عليهم لم يكن له وزن.. المهم هو حكمك أنت عليه، فهو النافذ، وإذا كان ذوقك وحش فهذا ليس ذنبنا.
إنما كان واجبى أن أضعك أنت ومدحت فى مجتمع سليم يضم عائلتينا حتى أساعدك على تكوين رأيك فيه، ونحن فى حاجة دائمًا إلى المجتمع. 
ومهما كانت عيوب هذا المجتمع فهو يحمى الفرد من نفسه، والحرية التى حدثتك عنها ليست حرية الفرد فى الفرار من المجتمع ولكنها حرية الفرد فى أن يعيش داخل المجتمع، لذلك فخير للفتاة أن تتحدى عيوب المجتمع من أن تفر منه، ولذلك أيضًا تركتكما تذهبان وحدكما إلى النادى والسينما والحفلات.. إنكما دائمًا أمام الناس وما دمتما أمام الناس فلن ترتكبا خطيئة، بل سيقوى فى نفسيكما الإحساس بالمسئولية ومهما قيل عنكما سيكون أهون من ارتكاب إثم لا يتحدث عنه الناس.
وأنا أقول هذا مستعينًا بتجاربى، فإنى كصحفى أعلم أن المجتمع يتحدث قليلًا عن الآثمين ويتحدث كثيرًا عن الأطهار يا حبيبتى.
هكذا سارت الخطة التى دبرناها حولك.
وفى نفس شىء آخر غير النظريات غير عقلى.. فيها إحساس تكوّن من عدة عناصر لا أستطيع أن أسيطر عليها كلها، توارثت بعضها عن أبى وجدى وجد جدى وباقى السلالة التى لم تكن تؤمن بنظرياتى فى الحياة والحب.
وعاطفتى تتعارض مع عقلى وأتعذب.
من كتاب «إحسان عبدالقدوس» لـ«لوتس عبدالكريم»

أقرأ أيضا: توقيع اتفاقيتين للمساهمة المجتمعية لقطاع البترول في دعم الرعاية الصحية بمطروح وبورسعيد

التعليقات

أستطلاع الرأي

هل تؤيد ضم الشركات متشابهة النشاط الواحد ؟