للاعلان

Sun,24 Nov 2024

عثمان علام

كلمتين ونص...إذا كنا نساق إلى حافة الهاوية..فدعونا نتلكأ في السير

كلمتين ونص...إذا كنا نساق إلى حافة الهاوية..فدعونا نتلكأ في السير

الكاتب : عثمان علام |

06:30 am 26/09/2018

| رئيس التحرير

| 1537


أقرأ أيضا: Test

عثمان علام:


لم يكن الحظ حليفي لاقرأ للدكتور جلال أمين، فمثلي مثل آلاف الصحفيين الباحثين عن لقمة العيش بعيدين عن حقل الثاقفة والمثقفين، وعن الإبداع والمبدعين، لكني حرصت لسنوات طويلة على مطالعة الأهرام كل يوم، وكنت أدفع ثمن الصحيفة لاقرأ فيها كل يوم مقالاً لكاتب، وكان كل يوم في الأسبوع له مذاق خاص وطعم خاص بذلك الكاتب الذي أقرأ له، فيوم الجمعة كان ل"عبدالوهاب مطاوع" وفاروق جويدة، والسبت للكاتب عادل حمودة، والاحد ل"محمد سيد احمد، والإثنين كنت أقرأ للجميع، والثلاثاء ل"فهمي هويدي"، والأربعاء للشاعر احمد عبدالمعطي حجازي، وداخل كل يوم كنت لا أضيع فرصة القراءة للراحلين أمثال: سلامه احمد سلامه واحمد بهجت وانيس منصور .


وربما تخلل أيام الأسبوع مقالات للدكتور جلال أمين ، هذا بالإضافة إلى ما كان يسطره في مطبوعات أخرى وهو كثير، ربما لا أذكر من هذه المقالات عنوان واحد، لكني أذكر كيف كانت لغته دسمة وشيقة وعذبة، وكلماته كلها عمق، رغم أن معظمها كان اقتصادياً .


وبالأمس غيب الموت، الدكتور جلال أمين، عن عمر ناهز الـ83 عامًا، بعد معاناة مع المرض، غاب بعد ان أثرى المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات منها: «رحيق العمر، ماذا حدث للمصريين؟، ماذا علمتني الحياة؟، ماذا حدث للثورة المصرية؟، محنة الدنيا والدين في مصر، شخصية مصر في القرن العشرين، مصر والمصريين في عهد مبارك، عصر التشهير بالعرب والمسلمين، مصر في مفترق الطرق، عصر الجماهير الغفيرة، المثقفون العرب وإسرائيل» وغيرها من المؤلفات القيمة.


وقد استطاع الدكتور جلال أمين، أن يجعل من سيرته الذاتية "ماذا علمتنى الحياة" والذي صدر عام 2007،  أداة لكشف المجتمع الذى نشأ فيه، لأنه في هذا الكتاب قارن بين ظروف نشأته وظروف نشأة والده ومن ثم أولاده وأحفاده، وقد أرجع في كتابه الملاحظات الخاصة إلى ظواهرها وأصولها العامة، فربط بين الخاص العام وكيف يتحول الفرد إلى مرآة عاكسة لمجتمعه، ويتحول كتاب السيرة الذاتية الى كتاب يتناول حياة أجيال بكاملها.


ويحكي الكاتب الشاب خيري حسن عن ذلك الكاتب الذي تحول إلى فتوة فيقول: ذهبت ذات يوم إلى منزل د. جلال أمين في شارع 12 بضاحية المعادي، حيث يعيش منذ سنوات بعيدة هناك، الساعة كانت تشير إلى الواحدة ظهرًا إلا خمس دقائق، انتظرت أمام الفيلا لدقائق، حتى أصعد السلالم في الواحدة بالضبط، ضغطت على جرس الباب، فتحت لي الخادمة، واستقبلتني زوجته الإنجليزية بكلمات عربية واضحة: أهلًا وسهلاً.. الدكتور سيكون معك بعد قليل; قالتها بعدما فتحت لي حجرة مكتبه. 

جلست أنتظره، وبصرى يجول في أرفف مكتبته وعلى بعض الصور المعلقة أمامي على الحوائط، في هذه اللحظة تذكرت واقعة عجيبة حدثت للدكتور جلال عام 1971 تحول فيها من كاتب وأستاذ جامعي مرموق إلى فتوة، لا يقل قوة ولا شراسة، عن فتوات حارات عمنا نجيب محفوظ في أعماله الإبداعية. 


في صيف عام 1970 سافر د. جلال أمين وزوجته إلى لبنان في مهمة عمل تستغرق عاماً، يومها قرر تأجير بيته لنفس المدة حتى يعود، وهو ما حدث بالفعل ووقع عقدًا لدبلوماسي من دولة بنما يسمى ;باتيستا، وعندما عاد بعد انتهاء فترة عمله، ذهب للرجل حتى يترك المنزل طبقًا للعقد المبرم بينهما، رفض الخواجة، وقرر ألا يترك البيت، بعد فترة من الوقت عاش فيها د. جلال في شقة مفروشة قرر أن يأخذ حقه بالقوة، أجر ثلاث عربات كارو ووضع عليها متاعه وحقائبه، ووقف بها أمام بيته المغتصب، صعد درجات السلم وحاول إقناع الرجل بإخلاء البيت، واصل الخواجة رفضه، فما كان منه إلا أن عاد إلى سيارته وجاء منها بـ الكوريك الحديدي، وبدأ في عملية تحطيم أبواب وشبابيك البيت على دماغ الخواجة، الذى انزعج بشدة وارتعد خوفًا وهلعاً. جاء البوليس، وحاول إقناع د. جلال بأنه يجب إعمال القانون، نظر له د. جلال ولسان حاله يقول له: قانون إيه يا أبو قانون، ثم واصل التهشيم والتحطيم في واجهات البيت ودخل إلى غرفة نومه المحتلة من الخواجة ووجهه يتطاير منه الدم بسبب الإصابات التي لحقت به، ونام على سريره ممدداً، معلنًا أنه لن تستطيع قوة على وجه الأرض طرده من ملكه، الذي استولى عليه غاصب. بعد ساعتين أو أكثر قرر باتيستا إخلاء البيت وحمل متاعه وترك له البيت الجميل هذا، الذى أجلس في إحدى غرفه أنا الآن: 


أهلًا يا خيرى.. عفوًا لقد تأخرت عليك قليلاً، بهذه الكلمات أعادني الدكتور من الذكريات القديمة التي طاردت ذهني عن بيته، والتي كتبها في سيرته الذاتية رحيق العمر;، سألني وهو يجلس أمامي، نجم - يقصد الشاعر أحمد فؤاد نجم- أخباره إيه؟.. قلت: زي الجن! ضحك بصوت مرتفع من أعماق قلبه، وهو يقول: حلوة حكاية جن دي!.. قلت له: يا دكتور هل تذكر حكاية باتيستا؟.. رد بعد فترة صمت قائلاً: نعم أذكرها ولا أنساها.. وكلما تذكرت هذه الواقعة أستغرب ملابساتها، لكن المؤكد أن إحساس الإنسان بأن حقه مغتصب، هو إحساس مرير، ويدفعك هذا الإحساس إلى فعل أي شيء، فالحق إذا ضاع، ضاع معه الأمن، والأمن إذا ضاع، ضاع معه الحق، قلت: والقانون؟.. قال: القانون يحتاج قوة وأمناً وإرادة حتى يحقق العدل، ثم توقف بنا الكلام عند هذه النقطة، وعاد يسألنى عن نجم; هل صحته جيدة؟.. قلت: نعم.. قال: هل تعلم أنني لم ألتق به منذ سنوات طويلة، قلت له: هل تسمح لى بأن أرتب لك لقاءً وينضم لنا فيه بلال فضل وعلاء الأسوانى.. قال: بكل سرور.. وبالفعل اتفقت مع كل الأطراف على هذا اللقاء، لكن المتغيرات التى حدثت بعد 25 يناير 2011 غيرت مجرى الأحداث، فلم يتم اللقاء. 


وذات يوم زرته مرة أخرى في بيته، وسألني نفس السؤال عن أحمد فؤاد نجم، فقد كان مهتمًا أن يسمع إن صحته جيدة- أو هكذا تصورت- وقلت له يومها إن صحته جيدة وهو الآن في ميدان التحرير يهتف مع جموع المتظاهرين عيش- حرية- عدالة اجتماعية، وكنا وقتها في الـ18 يومًا قبل تنحى مبارك، يومها لم يعلق، غير أنه قال: الحقيقة هذه الأيام هي أيام الحلم، أيام في عمر الوطن رائعة، تشبه بالضبط الفترة من يوليو 1952 وحتى 1958 وكنا في تلك السنوات نعيش في حلم ثم سكت قليلًا ونظر من وراء ستائر مكتبه إلى السماء، وكأنه ينظر إلى الحلم الذى تبخر بعد ثورة 1952. مرت الشهور وانتقلت للعمل في صحيفة الوطن، استقبلني مجدى الجلاد مؤسسها ورئيس تحريرها في ذلك الوقت، واتفقت معه على مجموعة حوارات تحت عنوان: الطريق إلى كوبرى القبة عن الانتخابات الرئاسية 2012 التي فاز فيها محمد مرسى، يومها طلب منى أن أبدأ بحوار مع د. جلال أمين، وبالفعل عدت إليه مرة جديدة، وفي هذه المرة، لم ينس أيضاً أن يسألني: عن الحالة الصحية لـ نجم؟.. قلت وأنا أضحك هذه المرة: زي الجن.. فضحك هو ضحكته العالية الصافية الصادقة التي تعبر عن روح فيلسوف، لا يخادع ولا يجامل، ولا يتجمل ولا يضحك على ذاته، ولا على غيره. وأظن أن هذه الخصال في تركيبته الإنسانية والفكرية هي التي جعلته أحد أهم الشخصيات التي صادقها وأحبها لصدقها الأديب العبقري الراحل الطيب صالح، صاحب رواية موسم الهجرة إلى الشمال، فهو من أفضل من شخص في دراساته وكتبه ومقالاته الشخصية المصرية في الـ50 عامًا الماضية وتغلغل في تكوينها الإنساني والثقافي والاجتماعي والثوري، بصدق وأمانة ووعي وموضوعية، فهو حتى على المستوى الإنساني لا يجامل ولا يعطى من لا يستحق ما لا يستحقه، قاس حتى على ذاته وعلى نفسه، إذا ما تعرض لهما بالنقد. 


جلست إليه هذه المرة حتى أعرف مصر بعد الثورة إلى أين؟.. ولم يكن مر على 25 يناير سوى شهور قليلة، قلت له: كيف ترى ثورة 25 يناير؟.. سكت قليلًا ثم قال: الثورة حلم تحول إلى وهم إلى ضباب. الثورة باختصار مقلب وشربناه.. ثم عاد وواصل ضحكته لكن الضحكة هذه المرة لم تكن بنفس جمال وقوة وصفاء الضحكات السابقة، ثم قال: هل اتفقت مع عمك نجم على اللقاء الذى تحدثنا عنه من قبل؟.. قلت: نعم وهو ينتظر وبلال فضل وعلاء الأسواني أيضاً في الانتظار. رد: إذن دعني أستقبلكم في نادى المعادي النهري على الكورنيش. قلت: اتفقنا.. ثم توالت الأحداث عواصف واعاصير سياسية، ومرت الأيام ولم يتم اللقاء بسبب تقصير منى، وبعد سنوات كان نجم قد رحل، لكن واصلت أنا زياراتي للدكتور جلال أمين في بيته الذي كلما وقفت على عتباته وأنا أرن جرس الباب أتذكر حكايته مع المستأجر الأجنبي باتيستا الذي كان يريد الاستيلاء على البيت، وكيف تحول بسببها الدكتور من مفكرإلى فتوة أجبرته الظروف على أن يأخذ حقه بيده، عندما شعر بأن القانون دون إرادة ودون قوة سيضيع عليه شقا عمره.


بعد وفاة عمنا أحمد فؤاد نجم، التقيت به في بيته مرة أخرى، واستمر الحديث ما يقرب من ساعتين، وقبل مغادرتي وهو يودعني قال لي: فاكر عمك نجم ؟.. قلت: الله يرحمه.. قال: زينب ونوارة أخبارهم إيه؟.. قلت: بخير.. سكت قليلًا ثم قال وهو يغلق الباب: أرجو أن تبلغهما سلامي.. ثم أغلق الباب.


وكان للدكتور جلال أمين مقولات، ربما تشبه مقولات الراحل العظيم جلال عامر، فهو الذي قال:


• للثورات مزايا كثيرة.. من بينها فضح المنافقين.

• يجب أن تكون لدينا الشجاعة للتمييز بين الدين والتدين.

• ويبدو أننا جميعاً نحب المستمع الجيد أكثر مما نحب المتكلم الجيد.

• لم أجد أي مبرر لاستخدام سلاح الإهانة الشخصية لكسب معركة سياسية.

• مهما كانت الكذبة كبيرة، فيكفي أن تكررها عددًا من المرات، وبإلحاح وصوت مرتفع، حتى يصدقك عدد كبير من الناس.

• إذا كنا نساق إلى حافة الهاوية، فدعونا على الأقل نتلكأ في السير، على أمل أن تحدث معجزة تُنقذنا من هذا المصير.

• إن تحقيق التنمية الاقتصادية بغير المعونة الأمريكية ليس معجزة.

• إذا لم يكن في ذهن الشخص سؤال في الأصل فليس هناك جدوى من إخباره بالإجابة.

•الطلب يخلق العرض، والذوق الرخيص يخلق الإنتاج الرخيص.

•نحن بصدد زحف شيء أخطر من الانفتاح والرأسمالية، وهو تحويل كل شيء ليصبح محلا للبيع والشراء، حتى روح الإنسان نفسه.


رحم الله الدكتور جلال أمين، ورحم الله الثقافة في مصر

أقرأ أيضا: توقيع اتفاقيتين للمساهمة المجتمعية لقطاع البترول في دعم الرعاية الصحية بمطروح وبورسعيد

التعليقات

أستطلاع الرأي

هل تؤيد ضم الشركات متشابهة النشاط الواحد ؟