في مطلع التسعينيات كنت أواظب على شراء صحيفة الأخبار من أجل"فكرة" مصطفى أمين، وهذا عنوان مقاله، وبعد وفاته ظللت أتابع ذات الصحيفة من أجل "نص كلمة" للراحل أحمد رجب، وشدني أسلوب أنور وجدي لصحيفة أخبار اليوم التي تصدر يوم السبت، "وهذا كان عنوان مقال يكتبه الأستاذ إبراهيم سعده"،-ثم سرعان ما تحولت لمطالعة صحيفة الأهرام، فكنت أنتظر يوم السبت لقراءة مقال الأستاذ عادل حموده، ويوم الثلاثاء لقراءة مقال فهمي هويدي، والأربعاء لقراءة مقال أحمد عبدالمعطي حجازي، وما بين بقية أيام الأسبوع كنت أقرأ مقالات نعمات أحمد فؤاد وسكينة فؤاد وبنت الشاطئ وأنيس منصور وسلامه أحمد سلامه وصلاح الدين حافظ ومكرم محمد أحمد، حتى البريد كان لا ينشر إلا رسائل الموهوبين في كل المجالات.
وقد طالعت أمس أكثر من ستون مقالاً بصحيفتي الأهرام والأخبار، وهما الصحيفتان الأكثر إنتشاراً وتوزيعاً" إن كانت المطبوعات الورقية لا تزال توزع وتقرأ"،- المقالات سطرت بأقلام صحفيين كبار ومحررين كبار ورؤساء أقسام ووزعت في كافة الأبواب، ما يتكلم عن الرياضة فهو في بابه وما يتحدث عن الإقتصاد فهو في صفحته، هذا بخلاف صفحات المقالات التي وجدتها مساحات لمجاملة صحفيين يعملون في ذات الصحف، ينشرون مقالات لمجرد أنهم كبروا في السن ولم يعد لهم عمل.
أكثر من ستون مقالاً تكتب يومياً في صحيفتين لم أجد فيها لا روح أنيس منصور ولا أدب جمال الغيطاني ولا ثقافة أحمد عبدالمعطي حجازي ولا عمق فهمي هويدي ولا تبحر أنيس منصور ولا موسوعة أحمد بهجت، فقط وجدت صلاح منتصر وفاروق جويده وقلة قليلة هم من لايزالون يحملون رائحة الأدب والأدباء والثقافة والمثقفين.
المقالات تحولت إلى زوايا كلاً يحكي فيها تجربته الحياتية مع القمامة وزحام المرور وأحاديث السيدات في المحمول وهن سائقات، مقالات عن مخالفات الأحياء والمجاري الطافحة في الشوارع، ثرثر عن الأخلاق التي أختفت وفصول المدارس التي تحوي مائة تلميذ في الواحد منها...كلام كثير ومساحات أكثر لم أجد بينها كلام جميل مفيد ، جمل تسحبني من نفسي، تروي عطشي من العلم والأدب، قيمة يتعلمها الكبير والصغير والرجل والمرأة الطويل والقصير العالم والجاهل، لم أجد شيئ سوى سفسطة لا تغني ولا تثمن من جوع، وكأن الموهوبون في الكتابة اختفوا من الساحة ولم يعد سوى هؤلاء الذين يكتبون فلا يُسمعون ولا يَسمعون.
إن قسطاً كبيراً من الشهرة والتوزيع تناله الصحيفة من الجرعة الأدبية التي تقدم، وما نالت الأهرام تلك الشهرة والمكانة والمنزلة بين الناس شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً إلا بمثقفيها الذين أثروا الحياة في كل مجالاتها، من أدب وفن وسياسة واقتصاد وعلوم وطب...لقد ظلت مجلة العربي الكويتية التي تصدر شهرياً قِبلة للشباب قبل العجائز لسنوات طويلة، لم تكن تنشر صوراً خليعة، ولا موضوعات شخصية، ولا بها بريد يحكي هموم الناس، كانت تقدم وجبة ثقافية ادبية علمية دسمة، يظل من يشتريها يطالعها حتى يأتي الشهر التالي فيمسك بالعدد الجديد.
قلت ولا أزال أن فكرة التهميش الثقافي هي التي خلقت هذا العالم الجاهل بما حوله، عالم يطالع مائتي صحيفة ولا يقرأ إلا لأنصاف كتاب، ويشاهد أربعمائة محطة متلفزة، ويستمع لمئات الإذاعات ويكتب على فيس بوك وتويتر وينشر صوره على إنستجرام، والمحصلة صفر، فقدرة العقل على الإستيعاب لا تستطيع تخزين كل ما يرد اليها.
ومن عاش وتعلم قبل ثلاثون عاماً من الآن تجده قد حفظ عواصم العالم ومدنه الهامة من إذاعة صوت العرب، وحفظ القرآن من إذاعة القرآن الكريم، ورقى لغته من البرنامج العالم، وكلنا يذكر برامج: صباح الخير ياعرب وكتاب عربي علم العالم وقال الفيلسوف، وأشياء كثيرة كانت تضيف إلينا ولا نزال نذكرها دون أن يكون لواقعنا تأثير، ماضينا فقط هو الذي يؤثر فينا.
وإذا كنا نتحدث عن إصلاح التعليم وتهذيب العقول والحفاظ على الجيل الحالي والأجيال التالية، فهذا لن يتأتى إلا بإعادة النظر في الروافد الثقافية والعلمية الموجودة في المجتمع، فكلما تراجع عددها كلما زاد تأثيرها، فليست العبرة بالكم ولكن العبرة بالكيف، ما نحصله ويعلق في آذهاناً هو الباقي.