10:17 pm 25/04/2023
| شخصيات
| 2746
#عثمان_علام
ليس مهماً أن تحكي عن أحد لم تعاشره ، الأهم الحكي عن الذين عاشرتهم وسمعت منهم وعنهم ، هذا أوقع وأصدق وأبلغ لدى الناس ، اللسان الذي يحكي عن الأحداث التي عاشها أصدق بكثير من اللسان الذي يسمع ثم يحكي ، فليس من رأى كمن سمع .
ربما كان هذا حديثي الدائم مع القطاع العريض من قيادات البترول الكبار والعظام والرواد ، بل ويمتد هجومي عليهم ليتهمهم بالخيانة ، لأنهم ساكتون صامتون طيلة الوقت ، لا يريدون أن يتحدثوا ، وهذه ليست طباعهم وحدهم ، ولكنها طباع وخصال الكثير من القيادات والرواد في مصر ، كل واحد منهم يأوى إلى ركن بعيد ولا يهتم لتأريخ نفسه أو تأريخ التاريخ ذاته .
في أخر يومين في رمضان التقيت المهندسون: محمد طويله وهاني سليمان ، وما بينهما كان المهندس مصطفى إسماعيل ، الأول هو أحد رواد الغاز الطبيعي ومنشئه ، والثاني هكذا وأضافت الظروف له ترأسه لقطاع البتروكيماويات وهو لصيق الصلة بالغاز ، والثالث هو أحد مؤسسي غاز مصر في بداية ثمانينيات القرن الماضي .
طلبت منهم أن يتحدثوا وأن يحكوا ويؤرخوا ، وكان الرد من الثلاثة واحد ، وهكذا يكون رد الجموع الغفيرة: ماذا نحكي لقد ابتعدنا عن الساحة وخرجنا للمعاش .
وهكذا كتب كل واحد منهم نهايته ونهاية حقبة مهمة في تاريخ مصر وتاريخ قطاع البترول بالبعد والصمت الطويل الذي يمتد على ما أظن إلى ما لا نهاية إن لم يجد جديد ، مع أن كلاً منهم يمتلك ذاكرة حديدية ، وكلاً منهم لديه مواقف وذكريات تصلح لأن تكون مكتبة نافعه ، والأهم يملك كلاً منهم ذاكرة لقطاع البترول وهي تمثل حقبة المنتصف ، بمعنى أنهم عاشوا وتعايشوا فى البدايات وكانوا من صناع الفترة ، ثم شهود على ما جرى بعد ذلك وحتى الآن ، وهذا يمكنك من الحكم على الأمور وعقد المقارنات والخروج بدروس مستفادة للأجيال الحالية والقادمة ، حتى من باب تلاشي أخطاء الماضي ورأب صدع الحاضر .
وهكذا يتبعثر تاريخ مصر بكافة نواحيها ، السياسيون أحياناً لا يتكلمون ، وإن تكلموا شوهوا الأحداث ، والبعض منهم أحياناً يمارس شهادة الزور ويركز بالقدح على فترة لم تعجبه ، أو يركز بالمدح على فترة تعجبه ونال منها مكاسب .
وأرى أن شهادة التنفيذيين والاقتصاديين أفضل بكثير من شهادات السياسيين ، على الأقل كان لهم دور تتفيذي فيما حدث من صنع للقرارات على الأرض ، وليس هناك ذاكرة أهم من ذاكرة قطاع البترول ورجاله وشبابه ، على الأقل ذاكرة مؤثرة وارتبطت بالأحداث التي مرت بها مصر خلال الستون عاماً الماضية .
وبالمثل شاءت الأقدار مصادفةً أن التقي بعدد من قيادات قطاع البترول ، وهم يمثلون ذاكرة للبناء والتشييد وصنع الواقع وتدشينه بكل ما يحمل ، هم الذين مدوا الخطوط وسط الجبال وطوعوا الرمال حتى يسرى الغاز والبترول في كل شريان الأرض المصرية ، ودار النقاش حول الكتابة عن أشخاص كانوا لهم أساتذة ومعلمين ، وكانوا للبلد عموداً فقرياً يقام عليه البنيان .
وكان ردي واضحاً : أريدكم أن تتكلموا وتكتبوا وتؤرخوا أنتم ، أنتم أصدق بكثير مني ومن أي شخص يكتب ويتحدث ، لأنكم شهود عيان ، إذاً أنتم الذاكرة الحقيقية .
ومثل كل مرة ، ينتهي الأمر أن لا شيء يحدث ، لا أنا أكتب ولا هم يتحدثون ولا يدونون ولا يكتبون ولا يؤرخون ، وهكذا تضيع ذاكرة القطاع كما تضيع الذاكرة الحقيقية للأمة .
الناس فى البترول وخاصة رواد شركة بتروجت التي مضى على تأسيسها أكثر من 45 عاماً يعرفون إنجازات المهندس كمال حافظ ، أنا لم اعاصرها، هم عاصروها ويريدون بل ويتمنون لو أن احد كتب عنها ، فمن عظمة هذا الرجل أنه صنع جيلاً يتحدث بإسمه طيلة الوقت ويسرد إنجازاته ووطنيته وحبه لمصر ولقطاع البترول ، وهذا إن دل فإنما يدل على نجاحه ، لكنهم فى النهاية صامتون لا يتحدثون .
السماحي:-
مثلاً ، المهندس عبدالوهاب السماحي ، هو أحد رواد وقيادات بتروجت ، ومنذ أن كان شاباً صغيراً فى مقتبل الثلاثينيات من عمره وكان مديراً وقائداً ، السماحي لديه ذاكرة حديدية يستطيع من خلالها أن يحكي تاريخ مهم لحقبة زمنية هامة ومهمة من تاريخ هذه الشركة ، خاصةً وقد كانت درعاً من دروع الوطن في سيناء ، وهي التي ساهمت في تدشين مشروعات عملاقة هناك ، خاصةً مشروعات خطوط الغاز والبترول .
طيب، هل يستطيع المهندس عبدالوهاب السماحي أن يحكي هذا التاريخ ؟، حتماً هو يستطيع ولكنه لا يفعل ، لا سيما وأن هذا التاريخ يحمل مشاغبات درامية لعلاقته ببعض روؤساء الشركة التي نكل به وحدثت صدامات وأحداث وحروب ومؤامرات خرج منها الرجل سالماً غانماً ، بطهارة يده وأخلاقه ، ورغم أنه كان مطلوب إهدار دمه ، لكن الله نجاه لأنه لم يكن يبغي شيء سوى رضاء الله وخدمته لبلده وشركته ، تخيلوا من كثرة المؤامرات خرج الرجل من شركته ولا يملك نصف الألف جنيه ، بينما كان غيره من الصغار يملكون ملايين وقت أن كان الدولار بجنيه واحد ، السماحي ليس فقط يستطيع أن يحكي عن غيره ، بل هناك جيش من بتروجت يستطيع أن يحكي عن السماحي نفسه ، وهذا يعني أن الرجل لديه ذاكرتان ، الأولى له والثانية عليه .
الجوهري:-
ثم المهندس #محمد_الحوهري ، وقد أطلقت عليه منذ أكثر من عشر سنوات لقب رائد التصنيع المحلي ومؤسس الشركات ، فقد كان له الفضل في تطوير ورش التصنيع المحلي بشركة بتروجت ، ثم أسس شركتي الحفارات المصرية والمصرية الصينية لتصنيع مواسير الحفر IDM ، وبعيداً عما تسمعه من الخسائر التي تكبدتها هاتين الشركتين ، إذهب إلى السخنة لترى بعينك قلاع هاتين الشركتين .
والمهندس الجوهري كان النائب الأول لرئيس بتروجت ، وعمل مع كمال حافظ ومصطفى كمال وتزامل مع حمدي الشايب وعبدالوهاب السماحي ، وغيرهم قيادات كثيرون ، وربما كان المهندس عبدالوهاب السماحي رئيسه عملياً ، لكنهم كانوا مجموعة واحدة في عِقد واحد لا تنفرط حباته ، وكان ضمن هذا العِقد المهندسون: عبدالمجيدي الرشيدي ومحمد عبدالحافظ ، طيب ، هل يحكي الجوهري عن هذه الفترة !، حتماً هو يستطيع لكنه لا يكتبها ولا يدونها ولا يحكيها على الملء .
الرشيدي:-
وبالمثل ، المهندس عبدالمجيدي الرشيدي ، ولمن لا يعرفه ولا أظن أن هناك من لا يعرفه ، فقد تولي منصب نائب رئيس شركة بتروجت ، وتولى قيادة الفرع الشرقي والجنوبي أو ربما الشمالي ، كان تحت يده أكثر من 15 ألف موظف ، يعني لو قورن هذا العدد بعدد موظفي الشركات ، سيكون الحاصل 4 شركات من الشركات كثيفة العمالة ، كما تولى رئاسة شركات: صيانكو وتنمية وفجر المصرية .
والمهندس عبدالمجيد الرشيدي إبن محافظة الغربية ، ولم ينتقل للعيش فى القاهرة إلا بعد ثورة 25 يناير ، كان يسافر يومياً من الغربية لمقر عمله ، يضع فى السيارة وسادة ليست بالخالية ، لأنه كان يأخد تعسيلة كلما غلبه النعاس ، تخيلوا سفراً يومياً وإدارة ل15 ألف بني آدم ، لا شك أنه أمر مرهق ولا يتحمله مديرو هذه الأيام المرفهين .
إذا تحدثت مع المهندس عبدالمجيد الرشيدي ، يحكي لك ذكريات البناء والتشييد ، يحكي لك عن فلان وفلان ودور كل عظيم منهم ، يحكي لك عن خلية العمل التي لم تكن لتتوقف ، يحكي لك عن رائحة الافارول الذكية لأنها كانت تحمل عبق العمل والكفاح دون انتظار مقابل بالآلاف ، الكل كان يعمل ويكفيه جنيهات معدودة ، المهم أنه كان يؤدي رسالة …لكن الرشيدي لم يكتب ولم يحكي ولم يؤرخ ، وهذا أراه عيباً لأنه طمس لذاكرة الأمة .
عبدالحافظ:-
ثم المهندس محمد عبدالحافظ ، وهو الأصغر سناً ضمن الأسماء سالفة الذكر ، لكنه يحمل داخله ذاكرة لحقبة هامة من تاريخ بتروجت والقطاع ، بدأها مع السماحي والجوهري والرشيدي وهاني ضاحي وكمال مصطفى ومصطفى كمال ، وتكلل مشواره بترأس بتروجت ، والفترة التي تولى فيها رئاسة بتروجت يُكتب فيها وعنها الكثير والكثير ، فقد كان مطلوباً من الثوار الذين لم يكونوا بثوار حقيقيون يوماً ، كان كل همهم الحصول على مكاسب ، فكان إسم محمد عبدالحافظ معلقاً على يافطات بمدخل البرلمان المصري ومجلس الوزراء ، وإذا سألت المهندس محمد عن هذه الفترة يقول لك : لم أعمل في بتروجت بالقدر الكافي ، لكن كان كل همي الحفاظ على الشركة من السقوط ، فقد كان لديَّ 30 ألف عامل يريدون العيش والحياة ، ولو تغافلت لدقيقة ستضيع الشركة .
وهذه مرحلة هامة ومفصلية من تاريخ بتروجت ، ولو أن المهندس محمد عبدالحافظ تكلم لسطر كتاباً مكون من ألف صفحة ، على الأقل يذكر أبناء بتروجت بهذا الماضي ، الذي وإن لم يكن بغيضاً فهو ماضٍ مؤلم وموجع ومسجل في دفاتر بتروجت .
ورغم أن الجمع يتفرق ويتشتت ويذهب كلاً إلى حاله ، لكن تظل الذاكرة هي التي تجمع هذا الشمل وتحيي فيه أياماً رغم صعوبتها إلا أنها كانت عظيمة ، فالمهندس عبدالوهاب السماحي خرج من بتروجت منذ ما يقرب من عشرون سنة ، والمهندس الجوهري خرج من بتروجت منذ أكثر من 15 سنة ، والمهندس عبدالمجيد الرشيدي خرج منذ 8 سنوات ، ولا يزال المهندس محمد موجوداً داخل القطاع ، لكن منذ زمن بعيد تفرق شملهم من تحت عباءة بتروجت ، وتقلد كل واحد منهم العديد من رئاسة الشركات والمناصب داخل القطاع وخارجه ، لكن تظل الذاكرة الحقيقية هي ذاكرة بتروجت التي لا يؤرخون لها ، وهكذا المهندس محمد طويله والمهندس هاني سليمان والمهندس مصطفى إسماعيل وغيرهم كثيرون .
ورغم قسوة الظروف التي عاشها كل واحد من هؤلاء الرواد داخل جدران شركته الأولى ، ورغم مرارة الرحيل ، لكن جميعهم يردد قول الشاعر : بلدي وإن جارت عليَّ عزيزةً .. وقومي وإن ضنو عليَّ كرام .
#حكاوي_علام #عثمان_علام