02:50 am 08/12/2022
| 3608
فى السابق لم أكن أُجيد فن المجاملات ولا الكلام المعسول ، ولا أملك مفردات العشق الممنوع ، قديماً إذا قالت لي سيدة : أنا أحب الربيع ، أقول لها : أنا أحب الخريف ، وإذا سألني أحد عن شيئ سؤالاً مستتراً حتى لو كان يطلب من وراءه حاجه ، كنت أطلب منه أن يكون واضحاً وصريحاً في سؤاله حتى لو كان فيه ذهاب ماء وجهه ، هكذا الريفيون أمثالي، مع مرور الوقت تعلمنا جميعاً فن المجاملات التي وصل إلى حد النفاق ، تباً لهذا الزمان .
أذكر قبل ثلاثين سنة جئت وافداً من قريتي في أدغال الصعيد ، رأيت القاهرة كيف أنها كانت تموج بمباهجها وأضوائها وفتياتها الجميلات ورائحة العطور تملأ الأركان ، وبينما الناس ما بين أفراحهم وأحزانهم يتقلبون كموج البحر ، كُنت أنا دائم الشرود وربما الحزن ، حزن على لا شيئ ، وشرود في ملكوت غائب عن الذهن حاضر أمام العين ، أي شيئًا يشغل ذلك القلب البكر وهو لم يبرح عامه الثامن عشر !
كان لديَّ شعور غريب بلا شيئ لم استطع أن أترجمه حتى بالكلمات البسيطه التي كانت تجري على ألسنة من كانوا يصغرونني بعشر سنوات ، أطفال كانوا ينطقون بكلمات الحب ومشاعر الذكورة المتأججة نارها قبل أن يخط الشارب وتظهر علامات البلوغ .
وقت أن تشجعت وطلبت من فتاة البوح بحبي وشغفي لها ، خرس لساني ، كل ما هنالك طلبت منها أن تسمع لي ، أريد أن أقول لها كلمات ، ظلت تستمع دون أن اتحدث ، وفي كل مرة كنت أطلب أن احكي لها ، كانت شغوفة أن تسمع ، لكن الخرس كان رفيقي دوماً .
ظللت هكذا ربما عامين أو ثلاث ، بعدها لم استطع أن أقول لها : أُحبك ، غير أن كلمات ليست كالكلمات كانت تنطق بها عيني ، الكلمات تحتبس وجسمي يرتعش كما لو كُنت بنتاً بكراً تخشى أن تتحسس يدي صبي جسدها .
كانت الأحلام أكبر وأقوى بكثير من الظروف ، أحلام جعلتني أنظر إلى البنايات ، فاختار أجملها واوضحها واوسعها واشهقها مساءًا ، فى الصباح يتبدل الحلم وأنا ارى الناس يضعون قدم ويتركون قدم فى الهواء وهم "يتشعلقون" فى المواصلات ، تخمد الأحلام لترضى بغرفة في زقاق ضيق ، المهم أن له باب احمل مفتاحه في جيبي ولا أحد ايري يحمل نسخة منه .
مع مرور الوقت ، وجدت أن الحب لا تنطفئ ناره ابداً ، بل تشتعل ما بين الحين والأخر ، تماماً كالبركان الذي صمد كثيراً ، غير أنه لم ينفجر ، آثرت أن يكون الصمت هو الرفيق ، حتى الكلمات التي كانت العين تنطق بها دون اللسان لم تعد موجودة ، تبخر كل ذلك وسط الزحام والبحث عن حال أفضل ومستقبل لا يعلمه إلا الله .
ومن يقرأ يرى العالم بقلبه ، لكن من يسافر يرى العالم والناس بكل حواسه ، لا تظنون أنني سافرت في هذا الوقت ، كل ما هنالك أنني غيرت مسكني ، وهجرت المنطقة لمنطقة أخرى ، وهذا سفر بالنسبة لي ، رأيت عوالم أخرى غير تلك التي استقبلتني ، أدركت كيف أن الحياة قاسية ، عاشرت أولئك الوحوش الذين يحكون عن السيدة اللعوب التي تسكن في أخر البناية ، وسمعت قصص وحكايات الأرامل والمطلقات وكيف أن الظروف تضطرهن لفعل أشياء قد تكون مشينة من وجهة نظري من أجل العيش وتربية الأبناء ، لا معنى لهذه الحياة طالما أنك لا تملك جنيهات حتى ولو كانت معدودة لتقضي حاجاتك .
وبما أن الحياة لا تتوقف ، وبما أن الزمن كفيل أن يُنسيك كل معاناتك وحتى أفراحك ، هو يسوق لك ما يريد وأنت تستقبل ما يريده لك بكل اريحية ورضاء ، وإلا ماذا بيدك حتى تفعل ، أنت ترى كيف أن الشمس كل يوم تطلع ثم تغيب ، والنهار يعقبه الليل ، والربيع متبوعاً بالخريف ، والصغير يكبر ، كل يوم يموت إنسان ويولد أخر ، هذه أشياء جعلت العين تتسع ، لترى أشياء ما كان لها أن تراها فى السابق .
مع مرور الوقت تدرك قيمة الاجتهاد والعمل ، قيمة التمرد على الأحوال ، قيمة الرغبة فى الخروج من المجتمع الضيق لمجتمع أرحب واوسع ، حتى قيمة الفقر والجوع والحاجة ، لتتخلص من كل ذلك وتعيش حياة أخرى ، ربما لا تعلمها لكنك تتوق إليها كما لو كانت لقمة تنتظرها وأنت جائع أو شربة ماء تروي ظمأك .
تدور الأيام دورتها ، وما كان يبهجك فى الماضي تراه نوعاً من العبث فى الحاضر، وما كان يسعدك بالأمس هو مصدر شقاء لك اليوم ، من كنت تعرفهم أضحوا ذكريات وربما أبطال لرواية لك أو حكاية تحكيها على سبيل الاستدلال أو المُزاح عندما تريد ذلك في موقف ما ، نحن هكذا أحياناً نتاجر بالذكريات المؤلمة كما لو لم تكن جزء منا .
غير أن الروح التي كانت تسكنك فى الماضي تظل ملازمة لك فى الحاضر ، ترافقك طيلة الوقت ، وددت لو ترجلت لاشاهد البنايات التي كنت اتوق لها وأصبحت ممقوتة عندي ، أو أرى محبوبة الصبا وكيف أمست ، وددت لو عرفت أحوال السيدة التي تسكن فى اعلى البناية لأعرف ماذا صنع الزمان بها ، وهؤلاء الأرامل والمطلقات واطفالهن الصغار ماذا فعل الزمن بهن ، أشياء كثيرة كنت تريد الخلاص منها ، وما إن تخلصت حتى عادت الذاكرة تقص عليك حكاياتهم دون إرادة منك أو رغبة .
أنا لا أتخيل أنني احكي قصصاً مضى عليها ثلاثين سنة ، يا له من زمان مفرط في سرعته ، كيف لهذه الأشياء التي تسكن داخلي أن تصبح ذكريات ، وكيف للشباب أن يضحوا شيوخاً ، وكيف للصغار أن يغدو رجالاً ، وكيف للفاتنة الجميلة أن تصبح أماً للعيال بعد أن ترهل جسدها وخمدت انفاسها وذبل وجهها وتبخرت رائحتها .
ربما أكون أنا هكذا في نظر الأخرين ، قد يراني أحدهم بعد كل هذه السنوات فيقول لي: لقد أصابك العجز وشابت ناصيتك ، أنا لا أشعر بذلك ، أنا هو نفس الصبي الذي لايزال يذكركم ويراكم بعينه قبل ثلاثين سنة ، إحساس مخيف ومميت أن ترى الناس بعين وهم يرونك بعين أخرى ، أن توصمهم بأشياء ولا تنتظر منهم ردة فعل أو حتى مقولة قد تغضبك أو تحزنك ، تريدهم أن ينافقوك وتنافقهم ، كيف لا وقد علمنا الزمن كيف نكون منافقين بامتياز ليس مع مرتبة الشرف ، بل مع مرتبة يانسن
أو هابيتات أو انجلندر أو مرتبة المأمون .
خواطر كثيرة ساقها لي المسلسل السوري "الندم"، الذي يحكي قصصاً عن الحرب الاسرائيلية على الجولان ، وأحوال الناس ، وكيف بات الفتى اليافع الوسيم المُحب العاشق ، يربي لحيته ويعيش في ملكوت الذكريات بعد أن رحلت حبيبته وتبخر الوطن ولم يبقى منه سوى أطلال .
أجمل ما في الأمر أن الفتى لديه المال ، والأجمل أنه موهوب ومشهور ، وشهرته هذه جعلت الجميلات يلهثن خلفه ، لكنه يرفض أن تبيع إحداهن جسدها بالمال ، هو يمنحها المال دون مقابل ، هو يكتب والسلطات تمنحه المال الوفير ، لكنه لا يرى أن ما يكتبه يستحق أن يحصد كل ذلك من وراءه …ويظل حلمه الوحيد ، هو تلك الخيالات من الحُب المفقود .
#حكاوي_علام #عثمان_علام