الكاتب : عثمان علام |
05:44 am 11/11/2021
| 1928
هناك رحلة يقطعها الانسان وحده، ولا يموت معه أحد ولا يموت له احد.. لا يسمع فيها كلمة وداع، ولا تجدي فيها دموع ولا تنفع معها دعوات ، هذه الرحلة هي الموت ، الإنسان حين يموت، يموت وحده، لا يموت معه احد، ولا يموت له أحد ، إنه هو الذي ينتهي، ويلقي كقطعة من الحجر بين اكوام التراب
أنيس منصور يقول عن الموت: الإنسان حياته كالنهر الذي يجمع مياهه قطرة قطرة ويدور حول الصخور، ويلتوي مع الشاطئين، ويحمل أسماكاً كبيرة تأكل أسماكاً صغيرة ، ويحمل رواسب المنبع، رواسب الماضي، ثم اذا هو يلقي كل حمولته من ماء وتراب وسمك وجهاد وكفاح في بحر الموت، وفي بحر الموت تختفي حلاوة نهر الحياة .
ألم يكن ذلك احساسك يوماً، عندما حملت حقائبك وسافرت الي مكان بعيد؟ .. ثم رحت تتلفت حولك، فلم تجد يداً واحدة ترتفع من أجلك، ولم تر منديلا واحدا يولول لفراقك، ولم تلمح صدراً واحداً يعلو ويهبط ، ثم ادركت أنك علي سفر، وانك مسافر وحيداً، وان رحلتك ستقطعها وحدك دون علم من أحد ، ثم أدركت أن هذه الرحلة هي أشبه شيء برحلة الي العالم الآخر؟
لقد أحسست ذلك أكثر من مرة حين وجدتني وحدي ، ورأيت الدموع في كل عين، والمناديل في كل يد والآهات في كل حلق..إنها جنازة حارة، إنها جنازة بلا ميت ، أو علنِ كنت الميت الوحيد بين هؤلاء المودعين والمشيعين!
عندمــــا كانت تتطــــاول الأمواج علــــي السفينة، ويفتح البحر صدره كنت أفقد إحساسي، فلا أحس بألم ولا بخوف ولا أستطيع أن أعبر عن شيء، ولا أري أمامي إلا فراغاً واسعاً بلا معني ولا طعم ولا لون ولا رائحة.. إنه العدم!
وعندما كان يثور البحر في الليل، أرتعد ويغلبني الخوف..إنني لا أريد أن أموت بالليل، فإذا كان لابد من الموت غرقا، فخير ألف مرة أن أموت في ضوء النهار، أن أموت والناس من حولي تموت مثلي ، والسماء تشهد على وحشية الماء ، الموت في ظلام البحر معناه أن يدفن الانسان في قبرين: الماء والظلام!
ويكمل: ولا أزال أذكر ذلك الشعور المبهم الذي راودني عندما كانت الطائرة تعبر بحر المانش ، والسحاب منعقد في السماء والطائرة تعلو وقلوبنا تهبط ، والخوف يلف نفوسنا، كما التف الحزام حول أجسادنا والبرق يضرب الطائرة بسياط من نار..لا أدري أي إحساس كان ذلك الذي يراودني .. إنه احساس بلا معني وبلا دلالة.
وفي لحظة واحدة تولاني فزع ممزق.. لم يكن الخوف من الموت، ولا الخوف من أن تحترق الطائرة واحترق معها بعد لحظات ولا الخوف من سقوط الطائرة في البحر.. وإنما هو احساس مرير بأن هناك إنساناً واحداً سيموت بعد موتي بساعات ، إنساناً قد ارتبط دمه وأمله بحياتي أنا.. ذلك الانسان هو أمي!
لم أشعر بكراهية لأمي مثل شعوري في تلك اللحظة ..كرهت أن تكون لي أم، وكرهت أن يتقدم بها العمر حتى هذه اللحظة ، وكرهت أن تلقى مصيرها علي يدي ، وكرهت أن أدفنها معي في بحر لا تعلمه وسماء لم ترها.. كرهت أن أكون سبباً في تعاستها ولم أكن في يوم سبب سعادتها.. وتساءلت : ولماذا لم تمت منذ سنوات ، يوم مرضت ، ولماذا لم تمت منذ خمس سنوات؟!
تذكرت ذلك الطبيب الذي عالجها، ثم مات هو، لا في حادث طائرة أو سفينة وإنما بعد زيارة مريض..لقد مات الطبيب وبقي المريض، ليموت على يد أعز أبنائه..لماذا لم يخطيء الطبيب في تشخيص المرض ، لماذا لم يخنه علمه وفنه؟!
ثم تطلعت إلو وجوه الناس..إلي وجوه أقاربي وهم يتحدثون عني فهذا يقول : إنه مجرم..لقد قتل أمه ..لقد كان في وسعه أن يبقى حيث هو، إنه لم يكن يجلس معها إلا لحظات ..إنها كانت تراه وهو يأكل وتراه وهو يقرأ وتراه وهو ينام..ولكنه لم يجلس إليها.. لم يتحدث معها.. لقد كانت تنظر إلى حجرته من بعيد، فإذا رأت مصباحه مضيئاً، علمت إنه يقرأ أو يكتب وإذا كانت حجرته مظلمة فهو قد نام ..إنه مجرم!
تردد هذا في رأسي وأحسست أنني لن أستطيع الدفاع عن نفسي أمام هؤلاء الذين سيصورونني علي النحو الذي يشاءون..أو أحسست أنني قطعة من الطين في أيديهم إن شاءوا جعلوها قطاً أو كلباً أو ذئباً أو جعلوا منها رأساً صغيراً ، ثم راحوا يدوسونه بأقدامهم.. إنني سأصبح في أيديهم ضعيفاً سأصبح عاجزاً بلا قوة ، ولن يسمع أحد رأيي ولن يراني ..وسأموت مجرماً لم يملك الدفاع عن نفسه!
وأحسست أنني كالسمكة الصغيرة التي جف ماء البحر من حولها فجأة، ونظرت إلى الدنيا فوجدتها كلها قد جفت وتلاشت كما يجف ماء البحر.. وأصبحت طائراً بلا هواء، وسمكاً بلا ماء، وإنساناً بلا قوة، وميتاً بلا جريمة!
ونظرت من نافذة الطائرة فرأيت أضواء مدينة لندن..اذن لقد تخطيت البحر ودخلت إلى الارض..والإنسان لا يخاف من الارض، وإنما يخاف من الماء ويخاف من الهواء، مع أن الذين ماتوا علي الارض أكثر من الذين ماتوا في الهواء أو في الماء .. ولكن الأرض أمان.
وأخذت أقبل على نفسي وأتحدث بصوت مرتفع وأعاهد نفسي الا أعود إلى رحلتي هذه لا فى الهواء ولا فى الماء ..واخذت اتحدث إلو نفسي كما كنت اتحدث إلى إنسان آخر يملك الحياة ويملك الموت!!
والموت هو الحقيقة الوحيدة في حياتنا المليئة بالآمال والمخاوف والاوهام.. وكل انسان سيموت...ولكن متي؟، إن أحداً لا يعرف!
فنحــن كالفدائيين اليابانيين نعيش في طوربيد تحركه ويتحرك بنا.. ولابد أن ينفجر ولكن متى؟...إننا نعيش في قنبلة موقوتة ضبطت لتنفجر في وقت معين ..هذا الوقت لا نعرفه.. إننا نعيش عند فوهة بركان يرتعد ويتصاعد منه الدخان، ونعلم أن جوفه ملتهب، وأن النار ستخرج منه وتطيح بنا إلى حيث لا نعلم ..ولكن متي يثور ؟ إننا لا نعلم!
ولكن متى الموت؟، هل امتناع النفس؟ هل امتناع النظر والسمع والاحساس؟ هل الانسان الذي لا يرى إنسان ميت؟ ولكن في الناس من يفتح عينيه فلا يري شيئاً ولا يجد متعة في شيء؟..هل الانسان الذي لا يسمع إنسان ميت؟ ولكن من الناس من يفتح اذنيه فلا يسمع شيئاً ولا يجد متعة في شيء!
هل الميت هو الذي لا يحب ولا يكره ولا يخاف ولا يقلق؟..ولكن من الذي يخاف ويقلق .. انه الانسان الذي له مستقبل، فكل كائن له مستقبل، له غد وله بعد غد هو الذي يقلق.. ولكن الميت لم يعد له مستقبل، فقد انتهي حاضره.. والذي لا حاضر له، لا مستقبل له!
انه الكائن الذي اصبحت كل الارقام عنده صفرا، انه الذي تحول الي حجر يلقي في التراب..انه العاجز الذي لا يستطيع ان يقاوم شيئا أو أحدا، انه لا يقاوم دودة، انه الذي لا يعرف أحدا أو شيئا، لا يعرف صديقا أو عدوا ولا يعرف إلها أودينا!
لقد أنقذت من اكفان الموج مرات، ومن اكفان الهواء مرات.. وفي كل مرة أعاهد نفسي الا أعود .. ولكن أعود الى أحضان الموت من جديد، والاستسلام له.
ويبدو أن الذي يستسلم للموت لا يموت، والذي يقابل الموت في منتصف الطريق، لا يراه الموت، فإن الموت بعيد النظر، ولا يرى إلا البعيد، ولا يحصد الموت إلا الخائفين.. ومن يدري لعل الموت يريدني ولكنه لا يريد أمي ، وبالفعل أراد الموت أمي ، ولم يعد مقبولاً أن أخاف الموت غرقاً أو حرقاً ، فلم يعد هناك من سيلحق بي بعد يوم من رحيلي ، فالأحبة جميعهم قد رحلوا .