للاعلان

Sun,24 Nov 2024

عثمان علام

كلمتين ونص…هل جال بخاطرك أن تُرثي أمك !

كلمتين ونص…هل جال بخاطرك أن تُرثي أمك !

01:18 pm 02/11/2021

| رئيس التحرير

| 2907


أقرأ أيضا: Test

 

فور أن غابت أمي عن الحياة ، أسرعت مهرولاً أُبحلق في أركان البيت ، أبحث عن حاجاتها ، أين كانت أمي تخبئها ، نظرت في كل ركن ، هنا كانت تجلس وتمدد قدميها ، وهنا كانت تمشي ، وهنا كانت تقف ، وهنا كانت تأكل ، وهنا كانت تطهو الطعام ، هنا كانت تمشط شعرها ، وهنا كانت تستقبل زوارها ، وهنا كانت تنام .

فعلت هذا وهي مسجاة على سريرها ، لاتزال لم تغمض عينيها ، قولت في نفسي والدموع تبلل وجنتي ، من بعدك يا أمي سيملأ البيت حديثا ؟، من بعدك يا أمي سيتجول في الأركان ويمشي فى الطرقات ، من بعدك سيشغل النار ويصنع لي فنجان الشاي ، من بعدك يا أمي سيحرص على نظافة هذا البيت وإعداده عند قدومي ، من بعدك يا أمي سينتظرني على الباب مسرعاً لسيارتي ليحضنني !.

عدت إليها مسرعاً ، بعد أن فتحت خزانتها التي تخبئ فيها أشيائها ، حضنتها وقبلت جبينها ويديها وخديها ، بكيت بحرقة ، بضع حبات من الدموع كأني لم أذرفهم من قبل ، ومن أغلى من أمي حتى يسيل الدمع عليها !.
جمعت إخوتي ، قولت هذا متاعها ، قسمته عليهم بالتساوي ، لا فرق بين الصغيرة والكبيرة ، الرجال لن يرثن فيكي يا أمي ، أشياءك لبناتك ، ثمة وريثة صغيرة هي أريج بنت أخي محمد ، لم تتجاوز السابعة من العمر ، أوصت لها بخلخالها ، كانت تدرك جيداً أنها راحلة ، هذه لأمال وهذه لرضا وهذه لنورا وهذه لأريج ، لم تذكر غيرهن ليكونوا ورثتها .

قبل رحيلها بساعات معدودة ، دعت لأبنائي "كريم وعمر "، وأكثرت من الدعاء لحفيدها الكبير محمد عثمان ، وأوصت زوجة أخي بعدم القسوة على حفيدها أحمد ، أحيانا تضربه بشدة ، يذهب ليختبئ في حضن جدته ، الآن لم يعد له هذا الملاذ .

غاب الوعي بعض الشيئ ، كانت تفيق لتمسك بيد شقيقتي رضا : يلا نروج الجبل ، والجبل هو تعبير عن المقابر ، حيث يحتضن جبل أسيوط مقابر البلدة كلها ، لم تبرح هذه الكلمة فمها ، ظلت ترددها حتى ثقل لسانها ، كاد أنينها أن يختفي ، هممت بوضع العلاج في فمها ، كان الموت أسرع من كل شيئ .

لم أصدق أنها غابت عن الدنيا ، ومن يصدق أن أمه سترحل وتتركه ، في هذه الساعة تفقد عقلك ، تتجرد من المنطق ، لا أحد يقنعك أن هذه سنة الحياة ، لا تسمع غيرك بأن هذا موعدها ، أمي التي كانت تصطحبني في كل مكان تذهب وتتركني ، لقد عدت صغيراً طفلاً ، شريط العمر يمر ، تذكرت وهي تمسكني بيدها لتعبر الطريق ، تصطحبني لزيارة أقاربي ، تحملني عندما أفقد القدرة على المسير ، كيف لها أن تذهب وحيدة وهي التي ربتني صغيراً وشملتني بعنايتها ودفئها وحنانها ، يالا قلبي القاسي الذي يترك أمه تذهب بدون ونيس ، وحيدةً مجردة حتى من حاجاتها .


وقفت على غسلها ، طلبت مني المغلسة أن أتركها ، لا يصح أن أراها مجردة من ملابسها ، قولت : وماذا خفي من أمي عني وهي حياة حتى لا أراه وهي ميتة ، ظللت أحملها وأسكب العطر على جسدها ، أشم رائحتها ، اتحسس يديها وقدميها ، اتلمس خصلات شعرها المتدلية وهي مسجاة على المغسلة ، ما أطيب ريحك يا أمي ، ما أجمل وجهك وأنتي تفارقين ، أما كنتي تنتظرين بعض الوقت ، لماذا غاب حديثك وهمسك وحركاتك وسكناتك ، الدنيا هكذا .


لما أشتد عليها المرض ، هاتفتني ، قالت : أريد أن أراك على النت ، تقصد أن أتحدث معها بالفيديو ، رددت عليها : هي البلية لعبت يا حاجة وجبتي تليفون فيه نت ؟، طلبني شقيقي من هاتفه ، كان وجهها شاحباً ، عيناها تقول تعالى حتى أشبع منك ، قولت لها سأحضر حالاً ، ردت: لا خليك الطريق وحش متتعبش نفسك ، المهم أنني رأيتك ، هذه هي الأم ، حتى وهي في فراش الموت لا تريد أن تثقل على حبيبها ، ساعات واتصلت بي ، هات أخوك أحمد وتعالى ، تحركت لأصل عندها صباح اليوم التالي ، أمتنعت عن الطعام ، لم تتذوق شيئ ، كل ما كان ينزل جوفها لا طعم له ، كانت تقول : به مرارة ، تطلب منا أن نتركها بدون طعام ، تستفيق لحظات وترفع صوتها "يا ناس حرام عليكم مش عاوزه آكل"، كيف لي أن اتركك يا أمي بدون طعام ، ظلت هكذا ، فشل الأطباء في وضع محاليل لها لتساعدها على العيش ، هربت كل أوردتها ، يدها بدون عظام ولا شرايين ، ملمسهما كرغيف الخبز الذي خرج لتوه طري نقي . 

نزلت معها في قبرها الحدها ، كنت أزيح الرمال ، أضعها تحت رأسها وجنبيها ، لتنام مستريحة كما كانت على سريرها قبل ساعتين ، الآن يا أمي رقدتي وتلتحفين الرمال ، من يصدق ذلك ؟

كلما هممنا بالخروج أنظر إلى وجهها ، أنا انتظر أن تفتح عينيها لنأخذها معنا ، ظننت أن أمي لاتزال مغيبة عن الوعي ، هي لم تمت ، ظللت على هذا النحو حتى أخرجوني ، أغلقنا عليها قبرها ، وقفت لدقائق أنظر وأفكر ، أمي التي كانت ملأ السمع والبصر ، ترقد وحيدة في قبر مظلم لا عائل لها !، التراب مرقدها لا زاد ولا طاعم .

ظللت أرد : يا الله يا من ملكك باقٍ ، إرحم هذه السيدة الضعيفة التي زال ملكها وأصبحت بلا حول ولا قوة .

والآن أجد نفسي أبكي وأبكيها ، فلم يجول بخاطري يوماً أني سأرثي أمي ، بعد أن عشت معها أشجى معانيها .


قولوا لي بعد رحيل أمي ، من سيكون السكن ومن سيكون البركة ومن سيكون الحب ؟، لا أحد ، حتماً لا أحد …رحمك الله يا أمي .

أقرأ أيضا: توقيع اتفاقيتين للمساهمة المجتمعية لقطاع البترول في دعم الرعاية الصحية بمطروح وبورسعيد

التعليقات

أستطلاع الرأي

هل تؤيد ضم الشركات متشابهة النشاط الواحد ؟