الكاتب : عثمان علام |
08:06 pm 09/09/2021
| 3232
عندما تتأمل هذه الحياة القاسية تجدها تمر سريعاً بلا توقف ، فلا أحد يقوى على الإمساك بعجلة الزمن ، هي كالرحى الذي يدوس أي شيئ ، يطحن كل نفيس ورخيص ، كل كبير وصغير ، كل عظيم وحقير ، كل أمير ووزير ، لا أحد يسلم منها أبداً .
تسعة وثمانين عاماً عاشها الحاج محمود العربي ، أطهر ما عرفت مصر من التجار ، وهو مقدام على الخير صانع للمعروف فاتحاً للبيوت ساتراً للشباب والشابات ، سائقاً آلاف الناس ممن يعملون معه للحج والعمرة ، عامراً لبيوت الله ، مؤنساً للمساجد ، غير شتاماً ولا سباب ولا لعان ، حفظ لمن عملوا معه ماء وجوههم ، فحفظه الله بحفظه ومعيته طيلة عمره ، وها هو يودع الحياة الدنيا القصيرة الفانية ، ليلقى ربه غير مقصر ولا مفرط ، وإنا والله لنحسبه من أهل الجنة في أعلى عليين .
إن القلوب لتنفطر ، وإن العين لتسكب الدموع وإن الفؤاد ليحزن على رحيل هذه العلامات البارزة ، التي أثرت في حياتنا بخلقها وأخلاقها ، وإن محمود العربي واحداً منها ، بل عله أبرزها وأفضلها ولا نزكي على الله أحدا .
وإنه والله قطار المنايا الذي يحملنا واحداً تلو الواحد إلى العالم الأخر ، قطار ليس له محطة يرسو عندها ، لأنه لا يتوقف ، هو يخطف من جاء عليهم الدور ، ليصبح بعد قليل "قليل جداً"، نسياً منسيا ، لا أحد يذكره أو يتذكره .
ترى كيف أن سبعة آلاف سنة من عمر مصر ، وقبلهم بلايين السنين من عمر الأرض مضو ، ونراهم تاريخاً نحكي عنه ، ونتسأل : كيف حال من سبقونا وكيف كانوا وكيف أمسوا ؟..لقد أمسوا عظاماً بالية تتناثرها الريح وتهب بهم في أقاصي الدنيا ، لا يعرف أحد منا ماذا تحمل هذه الريح ، غير أنها بلا شك محملة ببقايا كل كائن كان ، ومنهم البشر .
نحن لا نتذكر أجدادنا الذين رحلوا منذ خمسون أو مائة عام ، لم نعثر لهم على بقايا نظارة أو عكاز ، أو جلباب أو ملحفة ، بل والغالب الأعم لا يعرف الكثير منا أين تم دفنهم وفي أي مكان يرقدون …وهكذا نحن جميعاً سرعان ما نتحول إلى لا شيئ ، حتى الذكرى فإنها بالية فانية زائلة .
إن ألف واربعمائة وثلاث وأربعون عاماً مضت على التاريخ الهجري ، عاش فيها ملوك وأمراء وفقراء وعبيد وبشر من مختلف الأجناس والملل ، لا أحد يذكر سوى نبي أخر الزمان ، لأن ذكره موصول بذكر الخالق ، وما عداه نمر عليهم سريعاً في كتاب أو رواية أو مسلسل أو فيلم أو حكمة نطالعها وسرعان ما ننساها .
وسبق هذا التاريخ آلاف السنين ، حكماء وفلاسفة وعلماء وأنبياء ، الكل ذهب ، حتى الخالدون أصبح ذكرهم مجرد نقش على الحجر ، فعلى خدود الحجر ساب الزمن تجاعيد ، تحكى لدنيا البشر قصة ملوك و عبيد ، الكل راح واندثر و اتساوى فى المواعيد ، و ساب فى أقصى السور آيات لها تمجيد .
إنها دنيا البشر القاسية التي أرفضها وأكرهها ، لكنها حقيقة ، وما دامت هناك شمس تشرق وتغيب ، فالحياة مستمرة والبشر متغيرون .
رحم الله الحاج محمود العربي ، ورحم الله كل من ولى ، وليرحم الله من بقي إلى ميعاد ، فالذين رحلوا قد افضوا الى ما قدموا ، أما الباقون فالويل لهم إن لم يتعظوا ويعتبروا .