الكاتب : عثمان علام |
01:10 pm 11/11/2020
| 2012
ايقظت تلك المشاهد الدرامية حكاوي أبناء القرية، التي كانوا يسردونها لنا ونحن صغارعن بنات بحري وحلاوتهم ودلعهم، بينما لم نكن نرى سوى بنات الصعيد الواحدة منهنترتدي الكالسون تحت الجلابية البلدي، بل وتوشك أن تحفر في وجهها علامات بالسكينحتى لا يراها أحد و يستحسنها .
حملت كل ذلك في ذاكرتي، ومع أول جنيهات احوشها ركبت قطار الإسكندرية ب275" قرش، لارى مثل هذه الفتاة"ميرنا وليد"، فادمر اسطواناتها التي تقتنيها ل"عبدالوهابوام كلثوم وعبده الحامولي"، غير اني لم اجدها، بل وجدت الزحام والضجيج ووجوهقاسية الملامح، وظهور قصمها التعب والشقاء، ووجدت ايضاً فتيات يركبن السياراتالفارهة وبجوارهن شباب ربما اجمل من اجمل جميلات الصعيد، واصابتني الخيبةالقوية، فكيف لي ان انسج دراما واقعية كالتي عاشها احمد عبدالعزيز مع ميرنا وليد!!!واين هو الواقع الذي يحكي عنه شباب القرية في سفرهم للإسكندرية، وكيف لهم وهم لايملكون شيئ أن يتسعكون مع بنات من هذا الجنس؟؟، كله سراب وحكاوي لا تخلو مننسج خيال الكاتب ومن خيال المسافرون للإسكندرية يعملون في النظافة والبناءوالتشييد.
لكني احتفظت بذلك كله في الذاكرة، وطمحت في تحقيقه يوم أن تركت قريتي مسافراًللقاهرة لاستكمل رحلتي الدراسية، لكن هيهات أن يتحقق ذلك والظروف والملابسات ليستكالظروف الدرامية او حكاوي أبناء الحي..نعم كانت من الممكن أن تتحقق لكنها لمتصادفني قط.
حفرت كل هذه الأحداث وبداخلي وجدان وعاطفة، جعلتني اسمع عبدالحليم ونجاةوميادة و وردة ، وغيرهم من مطربين العشق، ولم اكن اصل لمرحلة النضج حتى استمعلكوكب الشرق او عبدالوهاب...ومع مرور الأيام حاولت أن تكون لي تجربة خاصة، ربما لاتشبه تجربة ابطال ذئاب الجبل، لتباعد النسج الدرامي مع واقعي أنا شخصياً، وباعدتالحياة بيني وبين كل ما كنت اشاهده وما اراه وما سمعته، وقررت ان يكون لي حبكةخاصة لا تماثل ولا تشابه الدراما ولا الواقع الكاذب الذي عشت فيه لسنوات مع شبابراحوا يعوضون نقصهم بحكايات واهية هم أبعد ما يكونوا عنها .
لكن وما ان تفكر في صنع شيئ ترضاه إلا وتجد نفسك في منتصف العمر، وهذا يجبركعلى قبول أشياء ما كان لك أن تقبلها لو كنت في مقتبله، او حتى في نهايته، الأقدارتلفظك من كل إتجاه، كثيرون لن يكونوا راضين عنك، حتى محيطك الذي تعيش فيه قديمرق منك، يهرب كالماء الذي تسرب منك حتى بعد ان احكمت قبضتك عليه... مشكلة أنتتبخر منك الأيام دون أن تدرك شيئ، وحتى ما ادركته وجدته في النهاية سراب أفنيت فيهعمراً طويلاً، ضحيت من أجله بأثمن ما تملك، ودفعت فيه ما لو كنت دفعته في شيئ قبلهلنلت ما تشتهي .
إنها ليست ازمة منتصف العمر فقط، بل أزمة المجتمع الوسطي الذي يعتريك ويستعبدكويمنعك من العيش في مجتمع أعلى، ويصعب عليك أيضاً العيش في مجتمع أقل، هذاوذاك يمقتونك، كتلك الفتاة التي كنت تحلم بها، لكن ظروفك الوسطية حالت دون الفوزبها، وعندما اشتعل شيب منتصف العمر، وجمعت حفنة من المال، ووجدت حتى منتشبهها راحت تزهد فيك ، فلم يعد بمقدورك أن تجاري طموحاتها ولا احلامها ولا تستطيعالركض خلفها، ولا حتى سماع تلك الأغاني التي تهتم بها.
وربما تشبه حياة الكثيرين منا حكاية الدكتور احمد خالد توفيق التي حكاها عن مشكلةوسط العمر فيقول: ذات مرة اضطرتني الظروف واضطرني النحس إلى المشي في حيعشوائي مرعب على أطراف المدينة، فلاحظت أن سكان الحي الفقراء ينظرون لي نظرةشرسة متوعدة .. النساء ترمقنني في شك وكراهية، والأطفال يركضون خلفي لكن علىمسافة معقولة لأنهم خائفون مني، والفضول يمنعهم من الابتعاد، هنا فطنت إلى أننيأبدو أنيقًا متغطرسًا أكثر من اللازم .. أكثر مما يستريحون له، ولا أعرف كيف نجوت منهذه المغامرة على كل حال.
بعد أسبوع كان علي أن أقابل رجلاً في أحد الأحياء شديدة الرقي والثراء.. سيارات فاخرةمن أحدث موديل، بحيث بدت سيارتي جوارها أقرب إلى صندوق قمامة ألقاه أحدهمهناك، لاحظت نظرات الدهشة والعدائية التي يصوبها لي كل من ألقاه هناك، وعندماأردت دخول تلك البناية استوقفني حارس الأمن ليعرف من أنا بالتفصيل، نظرت لنفسيفي المرآة العملاقة خلف الحارس فعرفت السبب .. أنا أبدو رث الثياب مريبًا وفقيرًا أكثر مناللازم وسط هؤلاء.
هكذا عرفت أنني أنتمي لمعسكر الوسط في كل شيء.. ليس لي مكان في مجتمع الأثرياءلكن مجتمع المعدمين لا يقبلني أيضاً ..
لو تهددك واحد وأنت في معسكر الأثرياء فلا مشكلة لأن البودي جارد الخاص بك منالرجال صلع الرؤوس ذوي السترات السوداء سوف يحيطون بك لحمايتك، ولو تهددكواحد وأنت في معسكر الفقراء فلسوف يحيط بك أفراد عصابتك المدججون بالعصيالثقيلة والجنازير وزجاجات الحمض.. أما عندما تكون في الوسط فأنت تُضرب في جميعالحالات ..
وفي أيام الكلية كنت أحب (هيام) زميلتي، وكانت تعجب بحيويتي وشبابي لكنها لاتعجب بفقري وإفلاسي، وترى أنه من الشجاعة الخارقة التي تدنو من الوقاحة أن أتقدمطالبًا يدها من أهلها، أبي قال لي إن هذا مستحيل .. وهكذا قررت أن ألعب دور الفتىالذي تحطم قلبه، وسهرت أيامًا أكتب الشعر الرديء وأشرب أكوابًا من الشاي الثقيلالأسود .. تؤلمني معدتي من الشاي فأحسب هذه آلام الجوى وقروح الفؤاد التي يتكلمونعنها.
قضيت عمري أحاول جمع المال .. ثم صار لديّ ما يسمح بأن أطلب يد (هيام).. وعندمابحثت عنها وجدتها قد صارت امرأة بدينة مرعبة ولديها خمسة أطفال لا تكف عن صفعهم.. هنا وجدت فتاة تشبه (هيام) الشابة تمامًا .. لها نفس الطباع ونفس اللمسة الرقيقةالحزينة، طلبت أن أتقدم لها لكنها نظرت لي في تأمل طويل، ثم قالت:
أنت في وضع مادي لا بأس به، لكن معذرة .. لا توجد شعرة واحدة سوداء في رأسك ..ألميخطر لك أنك لو تزوجت في سن العشرين لكانت عندك ابنة في سني ؟...ثم راحتتمتحنني: هل تعرف آخر أغنية لـ (تامر حسني) ؟.. ماذا تعرف عن (جورج وسوف) ؟.. ماهو تشكيل خط الوسط للفريق الأهلي ؟.. ما هو آخر فيلم لليوناردو دي كابريو ؟ ''..طبعًالم أنطق .
معها حق ..أنا في معسكر الوسط .. السن الوسطى حيث لم يعد بوسعك الظفر بهيام، ولاتريد واحدة أخرى تصفع أطفالها ثلاث مرات يوميًا .. وحتى لو قررت الزواج بلا حب ... أنت لن تتزوج (عطيات) الفتاة الفقيرة الجميلة حارة العواطف فهي ليست من طبقتك،ولن تتزوج (إنجي) الفتاة الأرستقراطية المدللة التي تلعب التنس وتسافر لأوروبا مرتينكل عام .. سوف تتزوج عروسًا من الطبقة الوسطى هي (إلهام) ابنة الأستاذ عبد الجوادمعلم الجغرافيا، وهي تؤمن أن الارتباط بك ثمن باهظ لابد من دفعه مقابل الظفر ببيتوأطفال .. توطئة لأن تصير أمًا لخمسة أطفال تصفعهم طيلة اليوم ..
نعم .. مشكلة أن تكون رجلاً في الوسط مشكلة عويصة، تحتاج الى الكثير، غير أننيابتعد عن مناقشتها لأنني في الوسط بالضبط بين الجاهل والأكاديمي ..بين من اكملتعليمه ومن توسطه..بين من يفهم ومن لا يفهم..بين الثري والفقير..بين البياض والسواد..بين الطويل والقصير..بين الجميل والقبيح.. بين كل حاجة وعكسها !