كان المدرس يشرح الدرس ، وعندما يستدعيه الناظر لأمر ما ، يُنيب عنه التلميذ الأشطر حتى ولو كان ضعيف الجسمان ، يُمسك بورقة وقلم ويراقب همسات الشفايف لكل تلميذ ، ومن يتفوه بكلمة كان يدون أسمه ويعطيه للأستاذ عندما يعود ليأخذ نصيبه من اللوم والعتاب وربما الضرب .
وكنا صغاراً نسير في الشوارع ، فإذا صادف مرور المدرس في ذات الشارع كنا نختفي حتى يمر هو بسلام.
وإلى الآن كلما ساقتني ظروفي للسفر لبلدتي في أسيوط أنزل من سيارتي ، فلا أحتمل مرور المدرس على قدميه وأنا جالس على مقعدي.
وفي البيت لم يكن الصغار يستطيعون الجلوس على مائدة واحدة مع أبيهم، ولم يكن ذلك خوفاً بل إحترام وإجلال ، وكنا عندما يأتي ضيف يمنع الكلام والغمز واللمز حتى يذهب الضيف بسلام.
وبعد أكثر من خمس وعشرون سنة ، وجدنا التلميذ يشعل خابور الحشيش للمدرس ، ويشاهد معه مقاطع البورنو ، بل ويحدف مدرسته في مؤاخرتها وهي تقرأ الدرس ، ووجدنا من يمسكون في خناق مدرسيهم ، ومن يشهرون عليهم السلاح الأبيض في قلب المدرسة ، ووجدنا الأب الذي يشعل السيجارة لولده بمنطق"إن كبر إبنك خاويه" ، ووجدنا من يجلس واضعاً رجله على الأخرى في حضرة والده ، ومن يقول له نفض وكبر وفسي دماغك ، ومن يناديه بعم الحاج ومن يسب له الدين.
رحم الله الأخلاق، فقد كانت نعم الصاحب والمُعين ، ذهبت إلى حيث ذهب كل شيئ ، ودفنت في مقابر مجهولة لايزورها ولا يعرفها أحد، فمن عاش منكم زمنها فليقرأ الفاتحة عليها ، لكني والله أراها هي التي تترحم علينا نحن الأموات بدونها.