ماذا أكتب لجريدة تهتم بالطاقة، وطاقتي الروحية تحتاج لمن يجددها؟ قلت: لا بأس لو استجبت، ومصادفة كان الشاشة على ناشيونال جيوغرافيك وفيلم عن العمل في حقل نفط أميركي. "أول بئر تدفق منها البترول، منحنتا مع سائل الطاقة الأسود تجارب مفيدة، واستخدمنا تجاربنا لسحب ما في البئر الثانية، في المرة الثالثة قدمنا نصائحنا للآخرين".
هي الحياة تماما مثل بئر نفط، تدفق بالطاقة والخبرة. كنت أتابع باهتمام نصائح مهندس البترول الأميركي، وعلى الطاولة أمامي بضع روايات لنجيب محفوظ. ما العلاقة؟
انتهى الفيلم، وأنا أتخيل بجنون أن نجيب كان أكبر حقولنا النفطية وأغزرها وأغناها وأقربها من سطح الأرض.الفرق الوحيد أن كل بئر تنضب وتنتهي وتصير فراغا مهجورا، ونجيب بئر باقية يجدد الثقة في بلد ملأ التاريخ وشغل الجغرافية..تراكمت بين أصابعه خبرات مصر عبر العصور، قرأ الوجوه والشوارع، نقّب في التاريخ، راقب الشهور المصرية وتقلبات طقسها، تمشى في الحارات، وضع يده على الكنز. نحن الكنز، أنت وأنا وهو وهي. الناس، نحن الحرافيش.
للمرة العشرين أقرأ الحرافيش، وللمرة العشرين أوصي صديقيبقراءتها، وللمرة الألف أقسم أن نجيب محفوظ أكبر من نوبل..كما كان أعلى من كارهيه وأرقى من مغتاليه حيا وميتا..لو لم يكتب غير مطلع الحرافيش لاستحق ألف نوبل: "فى ظلمة الفجر العاشقة، فى الممر العابر بين الموت والحياة، على مرأى من النجوم الساهرة، على مسمع من الأناشيد البهيجة الغامضة، طُرحت مناجاة متجسدة للمعاناة والمسرات الموعودة لحارتنا"
مازلت تسألني عن العلاقة؟
القراءة هي حقل طاقتنا الروحية، وأكبر مهندسيها القريبين هو نجيب محفوظ. الأسبوع الماضي مرت مائة وستة وأعوام على ميلاده. فحاولت أن أتمشى في حقل إنتاجه، وأن أستنشق رائحة مصر التي لا تموت. يا عم نجيب، ألف رحمة ونور ومحبة وإعلان تلمذة. أيها العارف بالله، الذي تسللت بين رواياته حكمة القدر، وفلسفة الحياة، والإقرار بعجزنا أمام الموت.
"من يحمل الماضي تتعثر خطاه".. ما السبيل يا عم نجيب؟ "فقال له قلبه: لا تجزع فقد ينفتح الباب ذات يوم تحية لمن يخوضون الحياة ببراءة الاطفال وطموح الملائكة". وماذا نفعل حينما تضيق الظروف ونغرق في الأوجاع؟ "عندما تستحكم القبضة ولا يوجد منفذ واحد للأمل تؤمن القلوب القانطة بالمعجزة". أشعر يا عم نجيب، أنني كمن يقاتل عدوا لا يراه!.. "وتم له أعظم نصر، وهو نصره على نفسه"
يا سيدي، هف علىّ نسيمك هذا المساء، فانشرحت و كنت مكتئبا، وأنا أقرأ: "ليس أتعس من الحظ السيء إلا الرضا به.. لا أحذركم إلا من عدو واحد هو اليأس"