الكاتب : د. أيمن منصور ندا |
01:07 pm 14/06/2023
| رأي
| 1181
يقال إنَّ الشاعر العباسيّ الشهير البحترى (204- 284 هـــــ) فى شبابه المبكر، سأل شاعر العربية الأعظم «أبا تمام» (188- 231 هــــ) طالبا النصيحة:«كيف أصبحُ شاعرا؟»، فأجابه: «احفظ ألف بيت من الشعر ثم القانى فى العام المقبل»، فلما التقيه بعد أن أتمَّ مهمته، وأدى التكليف المطلوب منه، قال له أبو تمام «انسهم، ثم اكتب ما شئت».. فى إشارة إلى ضرورة أن يقوم المبدع بدراسة التراث واستيعابه والتماهى فيه، كمرحلة أولى لبناء أساس فكرى صلب وصلد، ثم التخلص منه، والبعد عنه، حتى يكون للمبدع شخصية مستقلة كمرحلة تالية.
بعضهم يستمر فى المرحلة الأولى ويغرق فيها، ولا يكاد يخرج منها.. وبعضهم يبدأ الكتابة دون الرجوع إلى التراث، ويطفون على السطح بلا جذور.. وقليل منهم من يحاول الجمع بين الموهبة والدراسة، والطبع والتطبع، ودراسة التراث وتعاطى الواقع، وهو ما نجح فيه الروائى والإعلامى «محمد موافي» فى آخر أعماله الروائية «آيات عاشق: نشوة الطليانى البيرتينو فيرو» (2022)..
«محمد موافي» (1972- ....) أحد أبرز المذيعين بالتليفزيون المصريّ فى الوقت الحالي.. بدأ حياته المهنية مذيعا وقارئ نشرة بالإذاعة المصرية، ثم بالقسم العربى بهيئة الإذاعة البريطانية، وتليفزيون وجريدة (الراي) بالكويت، وقناة الجزيرة وغيرها.. تعليمه وثقافته يجمعان بين اللغة التراثية المكتسبة من حفظه للقرآن الكريم، واستيعابه لديوان الشعر العربى الفصيح على اختلاف عصوره ومذاهبه، من ناحية، واللغة المعاصرة الحداثية من خلال دراسته للأدب الإنجليزي، وتخصصه فى الترجمة من الإنجليزية وإليها من ناحية أخرى.. هذه الخلفية الثقافية الثرية، متعددة المصادر، ومتنوعة الموارد، ومختلفة المشارب، انعكست فى أعمال روائية عديدة صدرت له فى السنوات الأخيرة، منها «سِفر الشتات» (2016)، و«حكاية فخراني» (2017)، و«يونس ومريم» (2019)، إضافة إلى روايته الأخيرة «آيات عاشق» (2022)..
«آيات عاشق» رواية طويلة (484 صفحة من القطع المتوسط).. غير أنَّها وعلى حدّ تعبير كاتب الأطفال الأمريكى جارى بوليسين ((1939- 2021) «مثل النهر الذى يتدفق،تستطيع أن تغمس دلْوَك فيه بسهولة».. لغة السرد، وطريقة الحكي، سهّلت من عملية تمثل الرواية واستيعاب تفاصيلها للقارئ المتخصص.. الانتقال من حديث الراوى المعبر عن شخصيته الحقيقية، حتى تعتقد أننا بصدد رواية ذاتية، أو سيرة شخصية للمؤلف، إلى خيال الفكرة والمصباح (المسرجة) وكأننا إزاء قصة من قصص ألف ليلة، ودمج الواقع المادى الحسي، بالخيال الجامح والعالم المسحور، جعل الرواية أشبه بملحمة من ملاحم اليونان القديمة، وإن اختلفت وقائعها وأهدافها.. كذلك، فإنَّ البناء الفنى للرواية أقرب إلى الأناشيد والأغانى الكلاسيكية، وإلى دواوين شعراء الرومانسية ومدرسة أبوللو منها إلى بناء الرواية التقليدي.. الرواية تتكون من أربعة وأربعين فصلا (نشيدا)، تحمل أسماء قصائد شعرية مثل «همهمة»، «قافية»، «شلال»،«غنت لى أو بكت»، «ريح الجنوب»، «طوبى لمن قام لا»، «عشق مُحرَّم»، «حنين»، «غابت الشمس»، «وعثاء الإياب»، «العشاء الأخير» وغيرها، وهو ما أضاف غموضا ساحرا للرواية، وجاذبية خفية نابعة من موسيقية اللغة الروائية وشاعرية بنائها.
الكاتب والمدون الأمريكى جون جرين (1977- ...) يرى أنَّه «ربما اقتباساتنا المفضلة تعبر عنا أكثر من أصحاب القصص والناس الذين نقتبس عنهم».. وهو الأمر الذى أعتقده فى رواية موافي.. الرواية مليئة بالحكم الحياتية، والمقولات التى يمكن اعتبارها خلاصات فكرية لصاحبها: «المعجزة تأتى لمن يسعى إليها ويعتقد فيها»، «الجميع يموتون، ولكن قليلا من الناس يبقون أحياء فى الذاكرة»، «كلُّ أب طيب هو الحياة»، «الخوف من الموت أشدُّ من الموت، وأفظع ألما من افتراس السبع»، «الحياة كلها عبث، ومجموعة من المصادفات التافهة وقتها، والجديرة بالتأمل بعد اكتمال المشهد»، «أعظم الإنجازات أن تنجح فيما أخبروك أنَّك عاجز عن فعله»، «اتبع الضوء، النور فى الطريق، دربك حيث دربى وقريب من الحرية»، «طيبون من يحافظون على عقولهم فى زمن عابث مجنون، ومجانين من يدعون الحكمة أثناء تصاريف قدر عجيبة»، «أيُّها الناس، من الحمق خوفنا مما ليس منه بدّ»، «تسقط الثمرة إذا طابت قبل الأوان»، «كلُّ مبتدأ جميل، حتى يثبت ذلك أو ينكره خبر، بلهفة نترقبه وأمل»، «المذلة أكبر البلايا»، وغيرها.
عالم اللغويات السويسرى فرديناند دى سوسير (1857- 1913)، أشار إلى أنَّ اللغة ظاهرة اجتماعية أكثر منها تاريخية، وأشار إلى ثنائية الدال (الصورة الصوتية للغة) والمدلول (الفكرة فى صورتها المجردة للكلمة)، وهو ما يمكن تمثله فى رواية «آيات عاشق».. الرواية لها أكثر من طبقة، ويمكن قراءتها بأكثر من مستوى.. وهو ما يضيف صعوبة إلى عملية التلقي؛ بحيث لا يمكن للقارئ العادى استيعابها وتمثل معانيها من المرة الأولى.. طبقات الرواية مزدحمة، وما يريد الكاتب توصيله كثير.. ولذلك، تتداخل الطبقات أحيانا، وتغمض المعانى أحيانا أخرى..ويصعب الفصل أحيانا بين الدال والمدلول..فإذا كان القارئ يبحث عن رواية يقرأها أثناء السفر،أو قبل النوم مستلقيا على الأريكة، فهذه الرواية ليست له؛إذ تحتاج إلى قارئ ممسك بالقلم، ومنتبه، ومتيقظ، وإلا غلق عليه الفهم، وصعب عليه الاستمتاع..
يرى الكاتب الإنجليزى سومرست موم (1874- 1965) أنَّه «إذا كان باستطاعتك أن تخبر القصص وتخلق الشخصيات وتبتكر الأحداث بشفافية وصدق، ليس المهم حينها كيف تكتب».. ويقول العرب: «إذا صح المعنى صح المبنى».. وقد استطاع محمد موافى فى روايته «آيات عاشق»، أن يجمع بين جودة المعنى، وسلامة المبنى، وكانت روايته علامة مميزة على الأدب المصرى المعاصر.