الكاتب : سقراط |
06:50 am 08/06/2023
| رأي
| 1926
هي الحياة بين نقطتين . بين بداية ونهاية وبين ولادة وممات تكون . و يخيط القدر الطريق الذي يربط بين محطة البداية الى نهاية الرحلة كعمر يعمر بالافراح تارة واحداث وآلام وفواجع تارة أخرى .
ويخطئ من يتصور أن طريقه مستقل عن طرق الاخرين ، فما الاحداث والاعمال إلا تقاطع مع طرق اناس اخرين يسيرهم القدر لنا بدون سؤال ولا عناء .
والناس علي مشاربهم وتوجهاتهم يظهرون كالفراش في تلك الدنيا يطيرون ويمرحون ويرزقون ثم يموتون .ويخيط القدر لهم خطوط حياتهم فلك أن تكون تاجراً او فنياً ماهراً او طبيباً حاذقاً او معلماً نافعاً ، كلها من نسيج القدر يهبها لكل من دب فيه نفس وروح .
ويأتي نسج الموظفين من احد اهم خطوط ومنتجات القدر في عالمنا فبه تمسك الملايين من الناس وبه توارى الكثير منهم او هكذا هيئ لهم عن عواصف الدنيا وضمان سبل الرزق . فأن كان قليلاً فبها ولتكن راحة البال عوضاً وسكناً . وان كثر فبها ونعمت . هذه الفئة من الناس لا تشكل ثقلاً او عاملاً فعالاً في اي تغيير او ابداع . تؤدي عملها او لا تؤديه فلا يوجد فارق كبير . وسيسير دولاب العمل الضخم وهو يحمل على اكتافه الملايين من راغبي الامان والستر المكتنف بقلة الحيلة والابداع . ولأنهم كثير ومن ينتظر دوره اكثر فقد وجب على المجتمع ان ينهي فترتهم مشفوعة بتعبير فاتر روتيني بالتمنيات و بخالص الشكر والتقدير على ما انفقتم من عمركم في خدمتنا ولكم ان تذهبوا لنستقبل اخرين مازالو واقفين في طريق طويل انتظاراً للجلوس تحت شجرة الراحه والامان.
هذا هو حال هؤلاء من ارتضو او قدر لهم ان يكونوا جنود لوظيفة محددة لا يخرج عن قواعدها ولا مجال للأبداع فيها . وهناك اخرين نسج لهم القدر نسجاً اخر من موهبة وتوثب تخرج عن حدود القواعد الصماء وتختلط بالابداع والاتقان وكلفتهم الحياة بأدوار هامه لتستطيع معها المجتمعات البشرية ان تعيش وتثري .
هذا الانسان الذي لا يرضي ابداً ويبحث عن المجهول وهناك دائماً ما هو مفقود في حياته . فأن جاع اصبح الطعام همه . وان شبع فتجوع احاسيسه وتشقي .
لذلك فقد هيئ القدر لهذا الانسان القادرين على اشباع هذا وذاك ولا يمكن لمن هيأهم القدر لذلك ان ينتهي دوره كالموظف في موعد محدد . فالفلاح يعمل حتي يموت وكذلك هو الطبيب هو يحارب بشرف اعتى اعداء الانسانية و الكاتب والاديب بقلمه لا يمل من مخاطبة عقول ومشاعر من حوله . لن تجد ابداً في اي مكان تحت هذه السماوات وظيفة (كاتب واديب ) فهذه تحديداً لا تخضع لقواعد وليس لك ان تطلب من صاحبها ان يظهر موهبته اعتباراً من الثامنة صباحاً .
واذا كان الكاتب والفنان تحديداً هو من وهبه القدر القدرة والعقل ليكون مخاطباً لعقول ومشاعر الانسان خارج حدود ايك قيود او قواعد فأن مثله لا يمكن لأي سلطة او مجتمع ان تتخلص منه الى المعاش والتقاعد طالما ظل قادراً على غمر قلمه في الحبر .
هؤلاء نوعية من البشر اعفاهم القدر من التوقف المهني عبر خط حياتهم مثل الموظفين .
هؤلاء يظلو في معارك مع احداث الدنيا والناس . هم من تتطور افكارهم وارائهم مع متغيرات الحياة عبر العصور . هم من يضعون الاحكام والامثال التي تظل خالدة عبر الازمنة . هم من يتعرضون للتقريع والارهاب بل والسجن احياناً بأيمانهم بآرائهم ومعتقداتهم وبما يؤمنون به . هم اصحاب رسالة ، الرسالة تعطيهم دافع المقاومة والاستمرار . هم اصحاب الرأي والخبرة وملاذاً للناس عند الشدائد بالرأي والنصيحة . هم النافذة التي تفتح ادراك الاخرين على مايحدث بعيداً عنهم في عالم كبير مختلف الطباع والاطوار .
الكاتب والفنان والرسام والمغني والملحن لا يحالون للمعاش . لانهم احرار يأتي فكرهم وعبقريتهم في غير ذي ميعاد . هم ليسو اسرى قواعد وروتين واوراق صماء عامرة بالأحبار والاختام . بل يعيشون داخل عالم عامر بالافكار والمشاعر والتوجهات تلك القادرة علي تغيير مفاهيم شعب بأكمله في لحظات فبهم يشتعل لهيب حماس الملايين او تطفئ نارهم بلحظات القراءة او المطالعة .
هم يحملون سلاح التأثير الفتاك بكل المقاييس يدخلون عقول الناس وقلوبهم بلا استئذان مسلحين بقلمهم وافكارهم.
الكاتب الحق لا يكسر قلمه ولا الفنان يكسر ريشته مهما كانت التحديات فهذه الادوات ليست ملك لهم ولكنها تكليف قدري محتوم وهم خارج نطاق و مفهوم المعاش او الاستقالة عند الموظفين .
فاذا كان الوهن يصيب الجسم وبعض العقل فأنه لا يصيب الموهبة والمشاعر المتدفقة و حرفية صياغتها والتعبير عنها بجمال محسوس للناس .
قد ينزوي قليلاً اذا كانت امواج البحر ثائرة بتوافه الواقع وضياع الاخلاقيات ،فتكون تلك هي الحكمة بلا ريب . ويكون الانزواء برهة للتفكر والتأمل لانطلاق جديد . فالمسئولية القدرية التي حملها دوناً عنه ستلح عليه دوماً وعليه بها ما دام ظل يزفر انفاسه في تلك الحياة .
الامثلة كثيرة ورائعه، لم يفتر قلم الاستاذ الكبير هيكل حتى وهو على فراش الموت . ظل محللا متابعاً وهو يكتب من عصر الملكية المصرية . لم يتغير ولم يستسلم وظل كما هو تزيد قيمته وخبرته على مر العصور . لم يفتر قلم محفوظ او يختبئ وهو يتلقى طعنات السكين في رقبته من جهلاء موتورين وظل يكتب ويكتب حتى حظي بالمجد والتكريم حول العالم .
صدحت السيدة ام كلثوم برائعة (الاطلال) و هي في السادسه والستون واختتمت حياتها بمعزوفتها الخالدة ( حكم علينا الهوي) وهي في الخامسة والسبعون وغنتها وهي تحتضر تقريباً .
و هناك فنانين عالميين نالهم من الاستهزاء والتقريع ما نالو . وهاهي اسماؤهم تهتز لها كبرى القاعات والمجمعات الفنية والثقافية .
هؤلاء هم العظماء الحقيقيون ، هم من قاومو الزمن والمرض والجهل ايضاً واستمروا في تقديم رسالتهم مهما كانت التضحيات والاحباطات مهما كانت اعمارهم وطول فترة رسالتهم . فهم ليسو موظفين ولا يحكم حياتهم سوى الموهبة والرغبة في العطاء .
الى كل فنان وكاتب او صاحب موهبه وابداع محبط ويريد ان يكسر قلمه أو يخمد نوازع عقله وموهبته و يهب نفسه الي الاستسلام : أقول .. انت لست موظفاً لتحال الي التقاعد او تستقيل ، هذا قدرك وستظل موهبتك وعقلك هي هاجسك الذي لا يفارقك الى ان تعود لتسطر وترسم وتفكر وتنقد وتنصح.
هذا ما قدرته الايام لك ولن تستطيع منه فكاكاً مهما حاولت التمسح بقواعد الموظفين . فأنت جبلت على الحرية ولم ولن تخضع لقواعد او تحكمات روتينيه . لا اجد لك مبرراً او عذراً فجلاء الموهبه هو المعاناه والعظماء هم من يخرجون رحم النار والحميم .
اذهب الى قلمك و ريشتك وصحفك فهم ملاذك و قلعتك الحصينة التي تحتمي بها من غوائل هذا الزمن الصعب وما يمتلئ به من شطط وغثاء . واياك والاستسلام فهي من شيم الضعفاء لا الموهوبين . واحذر من هواه الاغتيال المعنوي فهم كثر وسعادتهم في تدمير وتحطيم الناس .
و لكم جميعاً اتوجه بأن لا ترفعوا الرايه البيضاء ابداً .والسلام
سقراط