الكاتب : د منى حلمي |
11:36 pm 05/12/2021
| رأي
| 2147
«التطور» لا يعنى بالضرورة «التقدم»، فالتقدم كلمة نبيلة تستلزم أن تكون «التطورات» الحادثة فى أى مجال متناغمة مع قيم العدالة الاجتماعية بين جميع البشر، وبين جميع الدول، وتؤدى إلى السعادة والسلام.
يمتلئ كوكب الأرض بالعديد من البلاد، التى وصلت إلى درجة عالية من التطورات الصناعية، والتكنولوجية، والعلمية، أى أنها «متقدمة» صناعيًّا، وتكنولوجيًّا، وعلميًّا، لكنها «متأخرة» إنسانيًّا، بمعنى أن كل تطوراتها لا تخدم العدالة الاجتماعية بين جميع البشر، وبين جميع الدول.
على العكس، نجد أن تطورها المذهل يرسخ مفاهيم التفرقة العنصرية، والتفرقة الجنسية، والتفرقة الدينية، والتفرقة الطبقية، والتفرقة العرقية. والنتيجة الحتمية لذلك، كما نشهد، هى التعاسة، وإشاعة الكراهية، وزيادة ضحايا الإرهاب، والعنف ضد الطبيعة، والأقليات، والحروب السافرة والكامنة.
إن الدول المتفوقة فى صناعة الأسلحة، وأدوات التدمير، والخراب، والإبادة الجماعية، وفنون القتل والاغتيالات، والتحالف المستثمر فى الدعارة والمخدرات والجريمة المنظمة، والتى تعيش على دم الجثث المحلية، والجثث عابرة الحدود، كيف ترتقى إنسانيًّا؟؟.
والدول التى تنفق المليارات فى تمويل أصحاب النعرات الدينية المتعصبة، ودعم الإرهاب الدينى، وزرع أمراض، وأوبئة مستحدثة، واحتلال وتدمير الأوطان، باسم الدين والديمقراطية، وإذكاء تديين الشعوب وتغطية النساء، باسم حماية التراث الثقافى للدول والهوية والخصوصية، وأن الفلوس أهم من البشر، وأن تضليل الناس هو الطريق المختصر للفوز، كيف يصفها البعض بالتقدم، بل يعتبرها قدوة، وقد كان بإمكان تلك المليارات المهدرة أن تنهى الفقر، والمرض، والجهل، والجرائم، والحروب الساخنة والباردة، والتعاسة، على كوكب الأرض؟؟.
والدول التى تهتم بحقوق الحيوانات، من توفير أجود الأطعمة، والرعاية الصحية، والترفيه، وحسن المعاملة، ولا يؤرقها انتهاك أو غياب حقوق البشر فى مجتمعات أخرى، أهى «متزنة» إنسانيًّا؟؟.
كان زمان الإعلام المرئى (قبل أن يتطور)، قنوات أرضية ليست كثيرة، بدون ألوان، وزخارف، وبذخ. لكن المضمون كان أكثر رقيًّا، وعمقًا، وصدقًا، وإبداعًا، حتى لو اقتصر الأمر على الإضحاك والترفيه.
الآن «يتطور» الإعلام. تكاثرت القنوات الإعلامية المرئية، أرضية وفضائية، فى سباق لاستعراض الفلوس المتاحة، والاستديوهات المكيفة. أما المضمون ففقير، بائس، أغلبه يستحق الشفقة، يخدم إثارة العواطف العنصرية الموروثة، واستضافة مناظرات فكرية وفنية، صاخبة، لمضاعفة الإعلانات، وتسطيح القضايا، وترسيخ الطاعة والعنف، والترويج لمنهج «الترقيع»، و«التبرير»، بدلًا من المواجهات الجذرية.
هذا التراجع الكيفى أيضًا، فى السينما، والأغانى، ومفاهيم الأخلاق، وتغلغل الوصاية الدينية فى تفاصيل حياتنا. وما ينطبق على الدول والجماعات ينطبق على الأفراد.
زيادة الفلوس للأشخاص لا تعنى زيادة اتّساق الشخصية، أو تراجع الإنفاق على الدجل، أو المنشطات الجنسية. والانتقال من الأتوبيس إلى سيارة ليس معناه رفض الكذب، وجسارة الجهر بحرية الرأى، والإيمان بحرية العقيدة، أو اللاعقيدة. والتطور من الفول المدمس إلى الكافيار لا يعنى نبذ الإعلام الدينى، وفضح أشكال القهر المحجبة. ولا توجد أدلة على أن المرأة المتطورة من البكالوريوس إلى الدكتوراة لم تعد تقبل طاعة الزوج، أو أن الرجل المتطور من شاطئ الأنفوشى إلى بلاج خاص أصبح واعيًا بهدف المايوهات الشرعية لزرع الحكم الدينى. والناجح فى التعامل مع الكمبيوتر والأجهزة المعقدة لا يدل ذلك على نجاحه فى التعامل مع بساطة امرأة حرة. ومَن لديه المناعة لقهر «أحدث» الفيروسات لا يعنى مناعته لقهر «أقدم» الوصاية، ونزعات التملُّك والسيطرة.
مَن «يتقدمون» صناعيًّا، وماديًّا، وتكنولوجيًّا، لا «يتقدمون» إنسانيًّا لخدمة الحقيقة، والعدالة، والسلام، والحرية، والسعادة، بل هم يزدادون شراسة، وتنمرًا، وغطرسة. لكنهم يملكون المال، وسطوة إعلام غسيل المخ، ويعتلون المناصب المؤثرة لأخذ القرارات، والسياسات، والأولويات، والاختيارات. هذه هى أزمة عالمنا.
يجب أن ندرك أننا فى هذا العالم نخوض تحديًا مصيريًّا، قضية وعى تم تزييفه، أو استلابه، حركة حضارية تعطلت، ومعركة وجود لابد أن يشارك فى «تقدم» الوجود الإنسانى العام على كوكب الأرض، وليس فقط للشعب المصرى.