11:24 am 23/10/2021
| رأي
| 2057
اليوم قطاع النفط والغاز العالمي يمثّل تقريبًا 53% من خليط الطاقة، ويُسهم بشكل رئيس في دعم الاقتصاد العالمي وتحسين مستوى معيشة الإنسان على وجه الأرض، والحد من مشكلات التنمية الاجتماعية المستدامة مثل البطالة وفقر الطاقة.
والسؤال المحير، ليس فقط للدول النفطية وإنما حتى الدول غير النفطية: هل سيستمر هذا القطاع مصدرًا رئيسًا للطاقة على المدى البعيد، في ظل ما يواجهه من تحدٍّ بيئي كبير وحملات إعلامية تطالب بنهاية العصر الذهبي للنفط من خلال ربطه غير المنصف في كثير من الأحيان بظاهرة الاحتباس الحراري والتغير المناخي والكوارث البيئية التي تحدث في العالم بين الحين والآخر؟
هذه التساؤلات كانت تدور في ذهني عندما جرى اختياري رئيسًا لجمعية مهندسي البترول العالمية "SPE" في نهاية 2018.. حينها لم يكن لديّ أدنى شك أن هذه الصناعة تستطيع التحوّل -وبسرعة- إلى صناعة عالية الكفاءة ومنخفضة الانبعاثات، من خلال الآتي:
الحد الكبير من انبعاثات غاز الميثان المصاحب للنفط واستخدامه في الصناعة وتوليد الكهرباء بدلًا من حرقه.
إيجاد حلول جذرية تقنية للتخلّص من غاز ثاني أكسيد الكربون الذي يُنتج عن طريق حرق المنتجات النفطية، مثل البنزين والديزل ووقود الطائرات والغاز الطبيعي.
رفع كفاءة الطاقة لأعمال التنقيب والتطوير والإنتاج وخفض كثافة الكربون لسلسلة التوريد للمقاولين والموردين.
ماذا عن جمعية مهندسي البترول العالمية؟
كنت أتساءل أيضًا كيف تستطيع "SPE" -بتاريخها الطويل الذي يمتد إلى أكثر من 70 عامًا، وتقدمها التقني، وموسوعتها العلمية المليئة بالأبحاث والتقنيات المتطورة، وتوسعها الجغرافي لوجود فروع لها في 130 دولة، وقربها من طلبة الجامعات ومراكز الأبحاث لوجود أقسام لها في 340 جامعة حول العالم- مساعدة صناعة النفط والغاز للتصدي لهذا التحدي وتسريع وتطوير قدرتها على هذا التحول؟
إن تأثير هذه التحديات والحملات الإعلامية في هذه الصناعة كان وما زال كبيرًا جدًا، خاصة على فئة الشباب، فمثلًا شاهدنا:
انخفاضًا حادًا لعدد طلبة تخصص هندسة البترول في جامعات أميركا وأوروبا خلال السنوات الـ5 الماضية، لدرجة أن بعض الأقسام أصبحت معرضة للإغلاق.
شهد كذلك هذا القطاع صعوبة في جذب المواهب الشابة من خريجي الجامعات، لدرجة أن إحدى أكبر شركات النفط العالمية الأوروبية غيّرت اسمها لوجود لفظ "نفط" فيه، بهدف جذب المواهب من خريجي الجامعات في تلك الدولة.
بعض شركات النفط العالمية وجدت صعوبات في الحصول على تراخيص عمل وقروض مالية لتطوير حقولها النفطية والغازية.
أما في المملكة العربية السعودية فوجدنا بعض التشكيك والتساؤلات من بعض خريجي الثانوية العامة وأولياء الأمور وبعض طلبة الجامعات عن مستقبل التخصصات الداعمة لصناعة النفط السعودية، مثل هندسة البترول والجيولوجيا والجيوفيزياء، في ظل رؤية 2030 التي تدعو إلى نمو القطاع غير النفطي، ظنًا منهم -وهذا خطأ- أن ذلك يدعو إلى تهميش قطاع النفط والغاز السعودي.
الحقيقة أن رؤية 2030 تدعو للتوسع في تصنيع النفط، ورفع القيمة المضافة لمنتجاته بدلًا من الاعتماد على قيمة تصديره خامًا، الذي يتعرّض بذاته إلى تقلبات السوق النفطية العالمية.
وكان لا بد لـ جمعية مهندسي البترول العالمية من تطوير إستراتيجية شاملة تساعد هذا القطاع العالمي على مواجهة هذه التحديات والتسريع في رحلة التحول، ابتداءً بإعادة تعريف مفهوم تحول الطاقة "Energy Transition" من التعريف التقليدي الذي يدعو للتخلّص من النفط إلى تعريف جديد يطالب بجميع مصادر الطاقة دون استثناء لخفض انبعاثاتها الغازية والوصول إلى معدلات صافية قريبة من الصفر بحلول عام 2050.
وكان لا بد -أيضًا- من طرح معادلة الطاقة المتزنة التي تنظر إلى مشروعات الطاقة من خلال عوامل اقتصادية وبيئية وعوامل التنمية الاجتماعية المستدامة مثل البطالة وتحسّن مستوى المعيشة وخفض مؤشر فقر الطاقة.
ولتسريع هذا التحوّل كان لا بد من التواصل مع العديد من الجامعات ومراكز الأبحاث، لإطلاق العديد من المبادرات البحثية لتعزيز نموذج استدامة الطاقة المتوازنة وتسريع رحلة التحول، مثل مبادرة إدارة الكربون في جامعة هيوستن.
كان لا بد من التواصل مع الهيئات الدولية الحكومية وغير الحكومية، مثل وكالة الطاقة الدولية ومنظمة أوبك والصحافة والقنوات الفضائية المتخصصة، لشرح هذه الثقافة ورحلة التحول الجديدة لصناعة النفط والغاز.
أيضًا، كان ينبغي تكثيف مؤتمرات الطاقة والمشاركة الفاعلة فيها، لإظهار وإعلان الكثير من الجهود الجبارة التي تقوم بها صناعة النفط والغاز العالمية التي بدأت فعلًا رحلة التحول، ومنها:
ثورة الغاز الصخري الأمريكي، والنجاح الباهر في خفض انبعاثات الكربون، بسبب استخدام الغاز في توليد الكهرباء بدلًا من الفحم الحجري.
الاستثمارات الضخمة التي تقوم بها صناعة النفط، لتطوير تقنيات جديدة للحد من الانبعاثات الغازية وإيجاد حلول جذرية لها، ومثال ذلك مبادرة النفط والغاز البيئية "OGCI" والتزامها بمعاهدة باريس للمناخ، واستثمار مليار دولار لتطوير تقنيات جديدة تُسرع عملية التحول.
سرعة إطلاق مشروعات عزل غاز ثاني أكسيد الكربون وتجميعه وضخه في باطن الأرض.
وأخيرًا، القطاع المستقبلي، الذي أتمنى أن نرى زخمًا كبيرًا واستثمارات ضخمة فيه، هو تحويل النفط الخام إلى مواد كيميائية، لرفع نسبة تحويل النفط إلى مواد كيميائية غير قابلة للاشتعال، ذات قيمة مضافة عالية من 20% إلى 40% من برميل النفط خلال السنوات الـ20 المقبلة، ما سيحد بشكل كبير من انبعاثات احتراق منتجات النفط المكررة، وإيجاد استخدامات جديدة للنفط، ما يحافظ على الطلب العالمي على الخام، ويستوعب ما قد يفقده برميل النفط بسبب نمو قطاع السيارات الكهربائية.
السعودية في المقدمة
صحيح أن هناك تفاوتًا كبيرًا بين الدول والشركات النفطية في مرحلة التحول، إذ يوجد من هو في المقدمة مثل المملكة العربية السعودية التي بدأت رحلة التحول من أكثر من 50 عامًا، عبر عدة مبادرات، منها:
شبكة الغاز الوطنية التي حدّت بشكل كلي من عملية حرق غاز الميثان المصاحب للنفط واستخدامه مع الغاز غير المصاحب، لدعم الصناعة البتروكيميائية وتحلية المياه والأسمدة وتوليد الكهرباء، ما أدّى إلى خفض حاد جدًا لانبعاثات غاز الميثان في المملكة.
برنامج كفاءة الوطني، الذي لم يؤدِ فقط إلى رفع كفاءة الطاقة الكهربائية بشكل كبير، وإنما أدّى إلى الحد من الهدر في مصادر طاقة الوقود، البنزين والديزل.
مشروعات توليد الكهرباء بواسطة الطاقة المتجددة التي نسمع عنها بين الحين والآخر، وهي جزء من هدف إستراتيجي للوصول إلى 50% من استهلاك المملكة الكهرباء عن طريق مصادر الطاقة المتجددة كجزء من رؤية 2030.
اقتصاد الكربون الدائري الذي طرحته المملكة لمجموعة العشرين، وجرى تبنيه من قبل المجموعة والترحيب به من منظمة أوبك، والذي سيحوّل التحدي البيئي إلى فرص اقتصادية واعدة تدعم الاقتصاد العالمي وتحد بشكل كبير من غاز ثاني أكسيد الكربون.
مبادرة السعودية الخضراء التي أطلقها ولي العهد، لزرع 50 مليار شجرة، والتي ستؤدي إلى امتصاص كميات هائلة من غاز ثاني أكسيد الكربون من الجو، ما سيؤدي إلى تسريع رحلة المملكة في تحول مصادر الطاقة والوصول إلى الهدف المعلن.
رحلة تحول الطاقة
في ظل هذا الزخم الكبير من الجهود والاستثمارات ورحلة تحول مصادر الطاقة بقيادة قطاع النفط والغاز العالمي، أستطيع القول، إن نظرتي المستقبلية إلى خليط الطاقة متفائلة باستمرار تصدر قطاع النفط والغاز الذي سيكون -بلا شك- أكثر كفاءة وأقل انبعاثات، مدعومًا بالتقنية والمبادرات مثل اقتصاد تدوير الكربون، ودعمًا لنمو اقتصاد العالم الذي أصبح ذا شهية عالية ومتسارعة للطاقة، نوعًا وكمًا، لتحقيق أهداف منظمة الأمم المتحدة التنموية المستدامة الـ17 التي من أهمها مؤشر فقر الطاقة.
إن هدف الأمم المتحدة المعلن يطالب بخفض هذا المؤشر إلى الصفر بحلول عام 2030، رغم وجود مليار إنسان حاليًا تحت خط فقر الطاقة، يفتقرون إلى أبسط أشكال الطاقة مثل الكهرباء ووقود الطهي، بالإضافة إلى أن تعداد العالم السكاني سيزيد بمعدل مليار نسمة بحلول عام 2040، أغلبيتهم سيولدون في دول فقيرة.
ختامًا، هل يكفي ما تقوم به صناعة النفط والغاز العالمية من خفض للانبعاثات والوصول إلى انبعاثات قريبة من الصفر لحماية كوكب الأرض؟
الجواب لا!.. هذا القطاع مسؤول تقريبًا عن ثلث الانبعاثات العالمية.. رحلة التحول يجب أن تُطبق من قبل القطاعات الأخرى المنتجة للغازات الضارة دون استثناء، فمثلًا، لو أن القطاع المسؤول عن نقص الغطاء الأخضر للغابات الاستوائية بلدًا ما، فسيحتل -هذا البلد- المرتبة الثالثة عالميًا في الانبعاثات المكافئة لغاز ثاني أكسيد الكربون، كما أشارت إليه دراسة حديثة لمعهد الموارد العالمية.
فحماية كوكب الأرض -والأهم الإنسان الذي يعيش عليه- مسؤولية أخلاقية يجب على الجميع تحمّلها.