الكاتب : د أماني فؤاد |
08:54 am 30/10/2020
| رأي
| 2567
تنطلق طيور نورانية من قمر كبير يحتل وسط شاشة عرض سينمائية ضخمة، فى خلفية «مسرح البالون»، طيور شفافة أثيرية تضرب بأجنحتها فوق الحياة؛ فتجعل لها مذاقا مختلفا، تتلاقى مع ذواتنا فتمسها بالسحر والطرب. وظف مخرج عرض «سيرة حب» د:(عادل عبده)- رئيس البيت الفنى- طيور النور تلك ليصف (بليغ حمدى) موسيقار مصر النابه، أحد أجمل وأعذب هذه الكائنات النورانية المحلقة بحياتنا حتى الآن، رغم وفاته 1993، الفنان الذى قبض على جينات مصر الموسيقية الخاصة على مر تاريخها الممتد، وامسك بهويتها الإنسانية السمحة، الحارة الانفعالات، ذات الشجن العميق، الملحن الذى جعل مذاق الحياة والحب أكثر عذوبة وفرحا، حيث النور هو جسد وملمس ألحانه وأغنياته وروحها، موسيقاه التى أثْرَت فن الغناء المصرى بأعذب النغمات.
يجسد عرض «سيرة حب» لمؤلفه: (أيمن الحكيم)، لقطات وأغنيات من حياة الموسيقار والإنسان (بليغ حمدى)، مشاهد تمثل لحظات توتر فارقة فى سيرته، وعلامات فنية ووجدانية لمجدد شباب الموسيقى العربية، حفيد سيد درويش، وتلميذ القصبجى وفوزى والسنباطى وعبدالوهاب والموجى، هذا الموسيقار الذى عاش حياته بوصفها معزوفة كبرى ممتدة من التكوينات الموسيقية الشجية، درويش الألحان التى جعل لها السبق على كل انشغال آخر قد يأخذه من فنه، ولذا انسابت ألحانه غزيرة حتى وصلت لأكثر من 1300 أغنية، عدا الموسيقى التصويرية لبعض الأعمال الدرامية، توغلت ألحانه فى وجداننا ووعينا لتجعل من مشاعرنا طوابق متعددة، فمعه نحن تارة عشاق رومانسيون، وثانية وطنيون نحمل هموم أوطاننا وانتصاراتها بين حنايا القلب والضلوع، وتارة أخرى نتعرف تراثنا الشعبى ونتذوقه فى أرقى وأجمل توظيف لجُمله الموسيقية، وتكويناته البلاغية، من خلال معالجات (بليغ حمدى) الموسيقية له، والارتقاء بها، معه نحلِّق إلى السماوات محمولين على صوت (النقشبندى) الصاعد إلى الأعالى فى التواشيح التى لحنها بليغ له.
فى انشغالات الروح المتعَبة تجتازنا ألحان (بليغ)؛ لينقش ببصماته الموسيقية فسيفساء الوجدان الإنسانى، تعيد موسيقاه ترتيب فوضانا وأوجاعنا، ويشيِّد من أجلنا قبابا، عالما ثم يترك وسطه مفتوحا لتنطلق أرواحنا، قد نبكى أو نعاود الابتسام، ونحن نستعيد أدق مشاعرنا. فبعد سماعك لألحان بليغ؛ تشعر أنك اختلفت بشكل ما.
ربما السؤال الذى يطرح نفْسه على عشاق ألحان الرجُل، كيف تأَتَّى له أن يصل إلى وجدان الناس بهذا العمق، أن يوقظ بموسيقاه إنسانيتهم- على تنوُّعها- ويحرِّكها؟ وأحسب أن مجموعة من المقومات هى ما جعلته نهرا يفيض بموسيقاه على كل مستمع: 1ــ ربما كانت البداية من تذوقه العالى للغة، وموسيقى المفردات الداخلية، والإيقاعات بين التراكيب، جُملها وصورها، وعيه بموسيقى عروضها، إحساسه العالى بالكلمة، وتأليفه لبعض الأشعار جعله يختار أنسب الإيقاعات الحيوية لكلمات الأغنيات. 2ــ ويُضاف إلى هذا ذكاؤه فى التقاط إمكانات الصوت الذى سيلحن له، هذا الوعى بمقومات ومساحة الخامة، التى سيتعامل معها؛ جعلته يهبها من المقامات والجُمل الموسيقية ما يُخرج إمكاناتها، ويتلافى نقصها، بل يعوضه. 3ــ كل من عرف بليغ وتعامل معه؛ أشاد بإنسانيته وعذوبته، وحبه لأصدقائه، ويظل الحب هو صك النجاح الحقيقى فى كل إبداع، أحب بليغ الأصوات التى غنت له؛ ولذا فجَّرت ألحانه أجمل ما لديهم من مشاعر وأسلوب أداء.
4ــ اقترب بليغ من الوجدان المصرى بكل شرائحه، حين جاب القُطر المصرى لمدة أربعة أشهر شمالا وجنوبا، يسمع أغانيهم الشعبية، ومواويلهم، ومنشديهم، يدرك حكمتهم الفطرية العميقة، ويستعذب كلماتهم، وصورهم، ومطالع أغانيهم؛ فجاءت موسيقاه سهلة قريبة منهم، بقدر ما تحمل من شجن الفطرة، التى لا تحتاج جواز مرور لتدخل كل قلب وذائقة، تحمل أيضا رقيا ووعيا بأدق مشاعر الإنسان، تحاول التعبير عن الأرابيسك الداخلى بالموسيقى ذات المقامات المرنة، متنوعة المستويات.
5ــ كانت الصداقة التى جمعت بليغ مع شعراء المرحلة الخصبة، خاصة الأبنودى بكلماته الفذة المعبرة عن الوجدان الفطرى الصعيدى، ومخزونه الإنسانى الخصب وبراعة صوره، مع صوت قوى مثل (محمد رشدى)، وآخر حساس مثل (عبد الحليم حافظ) كلها علامات ودلائل نجاح، جمعهم حب الفن وحرصوا أن يتوافر لأغانيهم كل عناصر النجاح.
فى عرض «سيرة حب» جاءت ألحان بليغ حمدى بطلة العرض الرئيسية، ولقد تغنت (رحاب مطاوع) بصوت قوى وحساس، بكثير من أجمل الأغانى، التى لحنها بليغ، كما أنها تتمتع بحضور مؤثر على المسرح، وجسَّد (إيهاب فهمى) شخصية بليغ فى العرض، واستطاع أن ينقل جزءًا من تلقائيته وبساطته، كرمه وانفتاحه على العالم والآخرين، عشقه لمصر، كما جسَّد شطحاته الموسيقية التى وسمت شخصيته ببعض البوهيمية.
ولقد جسَّد مجموعة من الفنانين فى العرض مطربى مصر العظماء، وبعض ملحنيها وشعرائها، غنَّت الفنانة «نهلة خليل» أجمل أغانى أم كلثوم لبليغ بصوت قوى وأداء متمكن، كما قام بدور عبد الوهاب الفنان (مجدى صبحى) فى مشاهد كوميدية.
وتحت قيادة المايسترو (محمد أبو زيد) أجادت الفرقة الموسيقية فى نقْل زخم إبداعات بليغ التى شيدت وجدان أجيالنا.
امتازت أغنيات (بليغ) للمطربة وردة الجزائرية، المرأة التى عشقها طيلة حياته بالدفء والتدفق، حتى إنك تشعر أنك بمنبع نهر، يحملك مجراه ويتهادى ليهبك موسيقاه وحكاياته، يهبك الحياة بكل ما تحمل من فرح وأسى.
جميعنا بشكل أو بآخَر نحيا وجودا مستلبا، مغربا، مجتثا من روابطه وصِلاته، فتنطلق موسيقى بليغ لتهبك صِلة ما مع العالم، تحملك ألحانه على أجنحتها فتُشعرك بالتواصل، شخص ما بهذا العالم يشعر بك ويعبِّر عنك، يجسِّد بموسيقاه شجن مشاعرك، فتتساقط قطرات الندى فَجرًا بكرا، فتعاود استقبال الحياة القاسية.