كان إحسان عبدالقدوس هو من أطلق علي محمود عوض لقب "عندليب الصحافة"، وردد الكثيرون هذا اللقب لكن دون أن يدرك معظمهم حقيقة ما قصده الأستاذ إحسان عبدالقدوس به.
والأرجح أن المقصود هو أن محمود عوض ــ في رأي إحسان عبدالقدوس ــ يتبوأ في الصحافة المصرية نفس المكانة التي يحتلها عبدالحليم حافظ » العندليب « في الغناء، فمثلما كان عبدالحليم حافظ صوتاً جديداً، وأسلوباً جديداً ورسالة جديدة ، في عالم الغناء، كان محمود عوض صوتاً جديداً وأسلوباً جديداً ورسالة جديدة في مدرسة أخبار اليوم والصحافة المصرية في القرن الماضي.
وبهذا التميز الفريد شق محمود عوض لنفسه طريقاً خاصاً إلي جانب الكبار والعمالقة في بلاط صاحبة الجلالة ، حتي وهو في بداية الطريق ومقتبل الشباب.
صحيح أن المناخ العام ساعده ، ودفعه إلي الأمام ، حيث كان هناك » أساتذة « حقيقيون يفرحون باكتشاف المواهب الشابة ويدعمونها ويمهدون لها الطريق ، وهذا ما حدث مع محمود عوض الذي حظي برعاية مصطفي أمين وإحسان عبدالقدوس وغيرهما من كبار الصحفيين ، الذين قدموه إلي الأوساط السياسية والأدبية والفنية وأحاطوه بالمؤازرة، لكن هذه الرعاية لم تكن لتأتي بأي نتيجة إيجابية لو لم تكن هناك موهبة حقيقية وأصيلة تنتظر الفرصة للتحليق في سماء الابداع .
كان هذا هو محمود عوض .. كتلة من الإبداع الخالص ، وشعلة من الذكاء المتقد، والعزيمة والإصرار والتحدي والطموح الذي لا يعرف سقفاً ولا يعترف بحدود .
ورغم أسقف وحدود الصحافة في عصر التأميم والرقابة استطاع محمود عوض أن يخطف الأنظار، لصحافة عصرية لا تقوم علي أسلوب عذب وسلس ومتميز فقط وإنما تعالج مضامين جادة وتعتمد علي البحث والدراسة والتحقيق الاستقصائي المتعمق .
ولذلك لمع اسم محمود عوض بسرعة ، وظل نجمه في صعود مستمر ليصبح سيمون هيرش أو ديفيد هيرست الصحافة المصرية .. أثناء وجوده في أخبار اليوم .
وبينما كان الكثيرون يتوقعون أن يتربع علي رأس هذه المؤسسة الصحفية الكبيرة ويصبح رئيس تحريرها ..إذ به يتعرض للدسائس والمؤامرات الصغيرة والكبيرة حتي تتم الإطاحة به ويتم قصف قلمه بكل فظاظة !!
واعتقد من فعلوا ذلك أن هذه هي نهاية محمود عوض ، وأن طرده من جنة الصحافة » القومية « سيكون بمثابة موته الصحفي، لكن ما حدث هو العكس تماماً .. فقد كانت هذه هي » ولادته الثانية « كما يقول المتصوفة.
فقد انطلق محمود عوض إلي آفاق أرحب ، وانتشرت مقالاته في الصحافة العربية قبل أن تعرف مصر الصحافة الحزبية والصحافة الخاصة .. وبعد أن ظهرت هذه الأخيرة أصبح أحد أبرز نجومها الساطعة .. وكانت المفاجأة لمن حاولوا قصف قلمه وقطع لسانه أن جيلاً كاملاً من شباب الصحفيين يلتف حول محمود عوض وينظر إليه كمثل أعلي .. وكان هؤلاء الشبان الأوفياء هم من حملوا نعشه ومشوا في جنازته وتلقوا عزاءه وأحيوا ذكراه .
ولم تكن مقالات محمود عوض هي سلاحه الوحيد ، بل كان هناك سلاح آخر ، أو بالأحري مدفعيته الثقيلة ، هو الكتاب .. حيث صدر له نحو عشرين كتاباً وصل توزيع بعضها إلي أكثر من ربع مليون نسخة، والمدهش أن معظم قرائه من الشباب أيضاً .
وبلغ تأثير كتاباته أن أحد الأسئلة التي كان يوجهها الإسرائيليون إلي الأسري المصريين ــ في حروب المواجهة المصرية الإسرائيلية ــ هي : هل كانت إدارة التوجيه المعنوي في الجيش المصري توزع عليكم كتب محمود عوض ؟!
ولا أريد أن أتحدث الآن عن أهمية كتابات الرجل في المجالات المختلفة ، فهذا حديث يطول ، لكني أكتفي باستخلاص حقيقة أساسية هي أن الموهبة الحقيقية والأصيلة لا يمكن خنقها ، وهذا ما حدث بالضبط مع محمود عوض بعد طرده من فردوس الصحافة القومية ، فلم يصمت أو يمت ، بل انطلق مغرداً خارج السرب .. بلا حدود .
والدرس الثاني هو أن مصر بها مواهب وقامات مهنية قادرة علي إقامة صروح صحفية محترمة ورفع لواء صحافة عصرية متطورة ، وأحد أدلة ذلك تجربة محمود عوض مع جريدة » الأحرار « التي رفعها من الحضيض في بضعة أسابيع وجعل توزيعها يصل إلي أكثر من 160 ألف نسخة بدون إثارة رخيصة أو سباب أو شتائم أو تنطع علي خصوصيات خلق الله.
فالموهبة والمهنية والحرفية العالية كلها موجودة لدينا لكننا نهدرها أو نضيق عليها مثلما فعلت إحدي المؤسسات الصحفية القومية مع محمود عوض ، وهذه المؤسسات » القومية « تفرط في كفاءات كبيرة لأسباب غير موضوعية علي رأسها الاعتماد علي اعتبارات الولاء السياسي ، وحتي الولاء الشخصي في بعض الأحيان ، بدلاً من الاعتماد علي الكفاءة المهنية .
وثبت بالمقابل ــ وتجربة محمود عوض نموذج لذلك ــ أن الصحفي الكفء لا يستمد اعتباره ومكانته من منصب أو كرسي، وأن الكفاءة ليست موهبة فطرية فقط وإنما هي أيضاً نتيجة دراسة وثقافة موسوعية وتدريب وتعليم مستمر، وتواصل مستمر مع الأساتذة والزملاء والتلاميذ والمواطن العادي..وقد كان محمود عوض كل ذلك .
ولذلك سيظل له مكان عزيز في قلب الصحافة المصرية، وبوفاته خسرت الصحافة المصرية والعربية الكثير.
أما خسارتي الشخصية له كصديق.. ففاجعة تضاف إلي فواجع كثيرة نزلت علي رأسي في الأشهر الأخيرة بفقد أفضل الأصدقاء.
ولعله الامام الشافعي الذي قال »إذا المرء فارقه الصحاب.. ذل!