سماح صبري:
صادفني أمس وأنا أعد مقال عن دور المسئولين باعتباره الوجه الآخر لمقالي السابق، الذي أشرت فيه إلى دور الموظفين فى بيئة العمل، أن قرأت عن خبر القبض على مسئول مشتريات بإحدى الجهات الحكومية عقب تقاضيه رشوة وعند تفتيش منزله تم العثور على مبالغ مالية يسيل لها اللعاب من ضخامتها. ثم ليلا أطلعتنا المواقع الأخبارية على خبر القبض على مسئول أخر حكومي يتقاضى الرشوة بألوف الجنيهات فى واقعة واحدة. وقد سبق تورط وزير للزراعة فى تهمة مماثلة. حينها قلت فى نفسي عن هذا وذاك المسئول: " يا ويله وسواد ليله لو كان كل عمل في حياته بطولها وعرضها قد فعله على هذا النحو الخسيس، يطمع فى ما بجيوب الناس ويخاف بطشهم، ولا يبالى عقابا ولا يطمع فى نعيم ربه". ثم تذكرت حديثى مع أحد المسئولين المحققين فى واقعة فساد سابقة حين قال لى: " أصبحت المشكلة الآن كيف يتم حماية المحقق فى وقائع الفساد وليس كيف نحمى من يبلغ عنه!! كل مرتشى ومجرم وسارق ومخالف للقوانين يأتي إلينا بالمعارف والأقارب للتوسط والتبرئة ويتم الضغط علينا بوسائل شتى".
الكارثة فى جشع و" فساد الكبار" أصحاب المناصب الذين تتشابك مصالحهم ويتوفر لهم القوة والسند والسلطة والبجاحة، وتغيب عنهم الرقابة والمحاسبة. هؤلاء الذين أمنوا العقاب فأساءوا الأدب والتصرف. هؤلاء هم القدوة المشوهة الذين يرتكبون الحماقات سرا ويعاقبون على التفاهات علنا. الفساد ليس مالياً فقط! سوء التوزيع وفساد الإدارة من أهم الأسباب المشجعة على التجاوز والتحايل والتلاعب. اختيار القيادات محدودة القدرات والضعيفة فنيا يجعلها خاضعة للابتزاز. اختيار أعضاء النقابات من المطيعين لأصحاب السلطة يسلبهم قوة الدفاع عن الحق. عدم إستقلالية بعض الإدارات كالقانونية والمراجعة الداخلية المنوطين بالتحقيق وكشف الفساد تعجيز لهم. تخصيص أكثر من سيارة وسائق للمسئول الحكومى ودفع تكلفة البنزين له ولأسرته فى جميع تحركاتهم الخاصة فساد.
كابوس الفساد الأخلاقي أشد فتكاً بالمجتمعات. الأزمة لا تتفاقم بسبب فساد الموظف الصغير الذى يتحايل على الظروف ويسهر بعد مواعيد العمل الرسمية للحصول على 20 جنيه بدل وجبة أو "أوفر تايم"، ولا الطفلة التى سرقت رغيفا لتأكله، ولا الشاب الذى خطف نصف فرخة وعاد بها لأمه ليطعمها. إهدار الموارد المادية والطاقات البشرية وتوظيفها فى غير محلها فساد. استغلال النفوذ والإتجار بالمنصب ومحاباة الأقارب فساد. عدم وجود قنوات رسمية معلنة للإبلاغ عن الفساد والتلكع فى إجراء التحقيقات نوع من التستر وفساد فى حد ذاته. الإهمال والسلبية والنفاق وسوء التخطيط وسوء التنفيذ وسوء الإدارة والتهرب الضريبي كلها من صور الفساد. هذه السلبيات تفقد العامل فى مصنعه والموظف فى شركته حبه وإحساسه بالإنتماء لمؤسسته ويصبح شغله الشاغل الإجتهاد فى تحقيق منفعته الذاتية وليست المنفعة العامة. ولو أقيم ميزان العدل بين مرتكبى هذه الجرائم وخضع كل مسئول إلى المساءلة والعقاب - إذا لزم الأمر- بمنتهى الشفافية لاستقام الموظف الصغير والطفلة والشاب، وامتلأت خزائن مصر بالأموال ولن نضطر إلى الاستدانة على النحو الحالي المفزع!.
لا يزال في مصر العديد من الشرفاء والمخلصين والخير فيهم ومنهم وبهم تسير الأمور، لكنهم يحتاجون إلى عيون ترعاهم وحق يحميهم وعدل ينصفهم. يحتاجون إلى موارد لن تتوفر سوى بالشفافية والمصداقية. لا تغفلوا عن مراقبة المحاسيب وعقاب المتجاوزين. ولا تضغطوا على الضعاف وصغار الموظفين وتحملوا أفراد الشعب نتائج سوء إدارة واختيار ورقابة بعض كبار المسئولين. قبل الإصلاح المالي، مصر تحتاج إلى إصلاح إدارى وهيكلي وقنوات تواصل وقوانين عادلة. وبالإعلان عما أسفرت عنه جهود هيئة الرقابة الإدارية من فترة عن ضبط 687 جريمة فساد بأجهزة الدولة المختلفة شملت 3 آلاف متهم أحيلوا للنيابات وتحصيل عائد مادي قيمته نحو مليار جنيه ناتجا عما تم فحصه من موضوعات وما تم ضبطه من قضايا خلال أربعة شهور فقط. بالإضافة إلى اتخاذ إجراءات لتحصيل مبالغ تزيد قيمتها عن 3 مليارات جنيه، وبالإشارة إلى وجود إمكانيات متاحة غير مستغلة ومخزون راكد بما يزيد قيمته عن مليار ونصف جنيه، نستطيع القول بمنتهى الثقة: مصر مش ناقصها فلوس، مصر محتاجة تنضف فكريا وأخلاقيا!.