11:14 am 16/08/2023
| رأي
| 1951
ظلت مقاهي مصر تلعب دوراً فاعلاً مؤثراً في مختلف نواحي الحياة . كانت المقاهي هي احد اهم وسائل التواصل الاجتماعي في شكلها الانساني البسيط والمباشر قبل ان تنتقل حالياً الى شكلها الاليكتروني الجامد . كانت المقاهي عامرة بالحياة والنقاش بالرأي والرأي الاخر . تري فيها المفوه المتكلم والمثقف الشارد والشاب العاطل و الجرسون الخفيف الذي يتنقل بين طاولات الزبائن . اغلب المتواجدين هم من المواظبين على الحضور ، لذا تراهم يعرف بعضهم بعضاً . يسأل الناس عن المتغيب وربما يعوده فى منزله ان كان المرض سبب غيابه. هكذا ظل مجتمع المقاهي في مصر مجتمعاً له قواعده وقوانينه يحترمها الجميع ويدورون في فلكه . لم تفلت الصحافة هذه الفرصة التي تتوق الى الاخبار والاحداث والمغامرات ايضاً . فانتشر في مقاهي مصر العديد من الصحفيين يحاولون سبر اغوار هذا المجتمع الذي يعبر عن صوت الناس البسطاء والحقيقة الموجودة في النفوس والعقول بدون كلمات وجمل منمقه .
——————
كانت المقاهي واجهة للعمل الوطني والشعبي . وفيها ايضاً تتم الصفقات والاتفاقات .كانت الحلقة الوسطى دائماً لراغبي العمل في الخارج . وهكذا اصبح المقهى هو عنوان النشاط ، تعرف فيه الاخبار واتجاهات الريح وتعرف منه اخبار الزواج والطلاق وربما نزعات المحاكم .
كان مقهي (الشارع السياسي) من اهمها وكانت من اهم الاعمال التي عبرت عن مجتمع المقاهي الطلابية السياسية( الكرنك) الذي هو نفسه اسم المقهى. وظهرت المقاهي الثقافية وكان من اشهرها مقهى الاديب الكبير (نجيب محفوظ ) وفيها سطر اعظم وارقى الرويات الادبية . ولم يخل هذا العالم من مقاهي (الصعاليك) ايضاً فيها تباع وتشتري الاعمال الادبية السطحية ويعرض البعض ابيات من الشعر المنمقه او السرد الادبي لمجموعة من الخواطر التي لا تدل على شئ في معظمها . وان كان لمثل هذه النوعية من المقاهي تأثير كبير واشهرها مؤثراتها كان ( ثوره يناير ) .
————
وسنحاول في عدة حلقات وصف لبعض المقاهي الموجودة في حياتنا، و سنبدأها بالطبع وما هو اكثرها اهمية لكم و هو ( مقهي الشارع البترولي) .
هذا الشارع الذي تراه هادئاً من بعيد ، انواره خافته ، لا تجد فيه اضواء ولا مهرجانات . هكذا اعتاد العاملون في هذا الشارع على هدوء منطقتهم . لا يعنيهم كثيراً احوال الشوارع المجاورة على الرغم من تأثيرها عليهم . ولكنهم اعتادو ان يكونوا في الظل و الهدوء تأتيهم ارزاقهم بانتظام . لا هم لهم سوي استمراره اياً كانت الظروف والمتاعب ولا توجد لديهم الرغبة في مجرد المعرفة أو سماع بما يحوط ذلك من مشكلات وصعوبات فكلهم مرتبطون بالتزامات مالية وماديه لا تجعلهم في وضع يسمح بأي منغصات . عندما يجلسون على مقهاهم تجدهم يتحدثون خفية . لا يوجد بينهم صوت مرتفع . لا يوجد متذمر صاحب قضية يدافع ويموت من اجلها . فقد تركوا ذلك لارباب المقاهي الاخرى . لا يوجد رأي مخالف يمكن له ان يظهر علانية ويؤيده البعض . —————-
المقهى مقسم الى عدة اركان كل ركن له حضوره ومستواه الاجتماعي والوظيفي . لا يوجد اختلاط واقعي بين كل هؤلاء فكل منهم يحتضن من الكثير من الاسرار وخاصة فيما يخص كل ما يمس حياته ودخله . الجميع يغادر مبكراً لأن عمله صباحاً يحكم عليه بأن يأوي للنوم في الحادية عشر مساء .
هذا هو المقهى الوحيد الذي ترى فيه تباين الاهتمامات فيما يحدث في شارعهم على الرغم من جميعهم يسكنوه .فكل مجموعه تناقش المشكله التي تؤرق بالها وتؤثر عليها بدون النظر الى مشاكل اخرى متعددة تعاني منها مجموعات اخرى تسكن معها . فترى مجموعة مهمومة بمناقشة موقف البترول مع الكهرباء الاخير . والاسباب الحقيقية التي ادت الي ظهور مشكله انقطاع التيار الكهربي . وهل عالجت الكهرباء المشكلة اعلامياً اكثر من معالجتها فنياً ونجحت في ذلك؟ بينما لم يظهر البترول جهوده المضنية في توفير المحروقات بهذا الكم الهائل لمحطات التوليد . ستري اخرين علي النقيض من هذا ، تسرح اعينهم وعقولهم في توقيت ظهور حركه الترقيات الموسعة وهل للازمه الاقتصاديه التي نمر بها تأثير عليها وعلي توقيت ظهورها ؟ ولتذهب ايه مشاكل اخري للجحيم . اخرين يحللون ماحدث في حركه التعيينات الجديده التي جاءت مبتسره و اصبح فيها التكليف يشمل اكثر من عمل للذي وقع عليه الاختيار . هل سينجح هذا التصور الجديد في اداء المهام علي اكمل وجه ؟ وخاصة في ظل عدم وجود ايه كوادر فنيه في تلك الشركات لتوقف حركه التعيينات منذ زمن . وهل تم هذا خفضاً للنفقات وخاصه في ظل تدني انتاج هذه الشركات بصفه عامه ؟ وهل فشل هذا التصور اذا اثبته الواقع ستكون تكلفته اعلي من تكلفه النظام المتعارف عليه في اداره الشركات العامله ؟ وتدور احاديث اخري عن شركه جنوب الوادي وهل سيكون لها دوراً مختلفاً في الايام القادمه ؟ لن تجد اجابه محدده ولا رأي واحد يتفق عليه الجميع، ولكن ستجد تحليلات وإشاعات وتصورات . وتظل مقولة (دعنا ننتظر ونري) هي سيد الموقف بينهم .
———
تري مجموعه اخري يتحدثون دائماً عن الفوارق الماليه الكبيره بين القطاعات المختلفه وانتظار المكافأة السنوية المعتادة بنهاية سبتمبر وقلق البعض من تأثرها بالظروف الحالية ؟ والبعض الاخر يشكو من تدني مكافأة نهاية الخدمه بقواعدها الحالية في ظل انخفاض قيمه العمله بشكل كبير . هناك ايضاً بعض اصحاب النميمه التي لا تخلو اي مقهي منهم يهمسون بوجود خلافات بين بعض رؤساء الشركات الكبري مع قياده اعلي ولا يوجد تفاصيل عن الاسباب . ثم يدور الحديث بعد ذلك بعبارات النقد اللاذع لدور النقابات الحالي الذي اضمحل بصوره كبيرة. هكذا تجد رواد المقهى في انقسام واضح في اهتماماتهم بأحداث الواقع في شارعهم . ولكن المحير في رواد هذا المقهى هو اجتماعهم علي عدم اهتمام معظمهم بالبنيه الاساسيه لهذا الشارع الذي هو بالاساس مستقبل هذه الصناعه برمته واصل وجود هذا الشارع. لن تجد من يتساءل عن فرص زياده انتاج الخام الذي يمثل عصب هذا القطاع وكيف ستعمل العديد من شركات التصنيع بدونه ؟ . و هل يوجد في الافق اكتشافات لتعويض انتاج الزيت و الغاز ؟ لن تجد حديثاً ذو حيثيات في مثل هذه المواضيع .
——————
و لكن تبدو علي وجوه الحاضرين شيئاً ما اتفقو عليه و هو عدم وجود صحافه او واجهه اعلاميه قويه تعبر عن ما يجري من مشروعات واهتمامات العاملين ومشاكلهم الواقعيه وتساؤلاتهم المشروعه . اصبحت كافه المواقع المتابعه للأحداث به ذات ابواب ثابته للتهنئه والعزاء في مشهد يوحي بفقر العمل الصحفي المهني . حتي ما تجود به من الاخبار تجدها مبتوره لا معني لها ولا تستطيع ان تعرف من تخاطب تحديداً. بالتأكيد ضعف هذه الواجهه انعكس علي مجتمع المقهى. فلا اخبار ذات ابعاد اقتصاديه او سياسيه . ولا متابعات جاده لمشاكل محدده لشركات او افراد . ولا نوافذ لأبداء الرأي او الشكوي اياً كان منها . فانصرف معظم الرواد عنهم واصبحو يتلمسون الاخبار والاحداث فيما بينهم وبما يظهر علي السطح من تلقاء نفسه.
—————
رغم ذلك يظل المقهى البترولي من المقاهي المهمه بما يدور فيه من احداث اقتصاديه واجتماعيه وان ظل تأثيره علي المحيط العام محدود . وربما يكون له بعض من الاهميه في ان تصل بعض همهماته الي الاذان لتعرف حديث وانات بعض الناس به التي يجب ان تؤخذ في الاعتبار حتي تستمر الحياه في هذا الشارع القديم .
والسلام ،،
#سقراط