10:12 am 31/01/2023
| رأي
| 1226
مروه عطيه تكتب: النساء في دار الخلافة
برغم الموقف الديني والاجتماعي الرافض لفكرة تولي المرأة منصب الخلافة ، أو أي منصب ذو سلطة تمس مصالح الناس وأمور الرعية ، فإن هناك نساء عديدات في التاريخ الإسلامي مارسن ، من خلف الستار ، تسلطا سياسيا ونفوذا عاما ،جعلهن أشبه ما يكن بخليفات بلا تاج أو صولجان ، او اقرار رسمي بولايتهن وتحكمهن في سير الأمور ، قليلات جدا هن النساء اللائي أعترف لهن بالحكم بشكل رسمي ، على مدار قرون طويلة ، تمتد من قيام الخلافة الراشدة سنة 11 هجرية ، بعد وفاة النبي صلي الله عليه وسلم ، وحتى الانهيار الرسمي واسقاط الخلافة العثمانية ،عام 1922م ،ونفي آخر من حمل لقب (خليفة المسلمين ) .
حاكمات من خلف الستار :
الخيزران بنت عطاء : امرأة ضحت بولدها من أجل السلطة .
برغم كونها جارية في الأصل فإن "الخيزران بنت عطاء " ، التي أختلف المؤرخون في أصلها ،تمكنت من ممارسة نفوذ سياسي لا حد له في عهد خلافة زوجها " محمد المهدي العباسي " ، وقد بلغ من نفوذها أنها كانت تقضي حوائج الناس وتقرر في شئونهم ،كما استطاعت استبعاد أولاد "ريطة بنت أبي العباس السفاح " ، أول خلفاء دولة بني العباس ، من سدة ولاية العهد ، وتقديم ولديها " الهادي والرشيد " ، وبرغم دفاعها عن مصلحتهما ،فإن "موسي الهادي " لم يحفظ لأمه جميلها ،لذلك فبمجرد اعتلاءه أريكة الخلافة حاول إبعادها عن شئون الحكم ، وسد بابها في وجه طالبي مشورتها ومعونتها ، بل وهددها تهديدا صريحا ، وقيل حتى أنه حاول التخلص منها بتسميمها ، لكن امرأة قوية الشكيمة كتلك لم تكن لترضخ بسهولة ، ولذلك دبرت " الخيزران " مؤامرة لقتل ولدها المتمرد الجاحد ، وإسناد منصب الخلافة إلي ابنها الأصغر ، الاكثر طواعية ومحبة لها ، "هارون الرشيد " ، وهو ما حصل فعلا ، واغتيل "الهادي " ولم يكن قد حكم أكثر من عام واحد ، وآلت الخلافة إلي شقيقه ، واطمأنت " الخيزران " إلي دوام نفوذها وسطوتها !
ثمة من يكذب خبر المؤامرة ، وضلوع الخيزران في قتل ولدها ، ويعزي موت " موسي الهادي " إلي علة طارئة اصابته ، لكن فكرة اقدام أم على قتل ابنها من أجل السلطة والنفوذ ليست غريبة تماما على حوادث ودسائس القصور والبلاط في كل الأزمنة والأمكنة !
زبيدة بنت جعفر :
هي " أمة العزيز بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور " ، أي أن "زبيدة" هو كنية اشتهرت بها ، وهي حفيدة الخليفة " أبي جعفر المنصور " ، ثاني خلفاء الدولة العباسية ، واشتهرت بجمالها وحكمتها وسداد رأيها ، وقد تزوجت حين شبت عن الطوق بابن عمها " هارون الرشيد " ، الذي أصبح خليفة بعد انقضاء ولاية أخيه القصيرة جدا ، وهكذا اصبحت "زبيدة " في مركز يتيح لها تحقيق كل طموحاتها وآمالها ، كانت حماتها هي "الخيزران بنت عطاء " بقوتها وصلابة رأيها ، مما يعني أنه كان هناك إمرتان قويتا الشكيمة تتناطحان في بلاط " الرشيد " ، وباعتبارها الزوجة العباسية الشريفة فقد كان لابنها " الأمين " الحق في منصب الخلافة بعد أبيه ، رغم أن له أخ أكبر منه سنا هو " عبد الله المأمون " ، عُرفت زبيدة بحبها للعلم والعلماء ، والمشروعات الكثيرة التي نُفذت بناء على أوامرها ، وقد تمتعت بنفوذ واسع في حياة زوجها ، وعاصرت الحرب الطاحنة بين ولدها " الأمين " وأخيه غير الشقيق " المأمون " على الخلافة ، ورغم أن ولدها قتل ، وانتهي الصراع بتصعيد غريمه " المأمون " إلي سدة الخلافة ، فإن مكانتها لم تهتز بوفاة ابنها ، إذ عرف لها "المأمون " قيمتها وقدرها ، وأبقاها معززة مكرمة حتى وفاتها ، استمرت حياة "زبيدة " أكثر من ثلاثين عاما بعد وفاة " الرشيد " ، وتركت مشروعات تحمل اسمها حتى اليوم مثل ( عين زبيدة ) أو ( نهر زبيدة ) ، أحد المحاولات الأولي لتوفير السقاية للحجاج خلال طريقهم الطويل الشاق وصولا إلي مكة !
ست الملك : أخت المجنون التي أخفته في المغارة .
حكاية " ست الملك " أغرب وأكثر إثارة للدهشة من كل من سبقنها ، فقد مارست تلك المرأة السلطة علانية وفي النور برغم أنها لم تحمل ألقاب الخلافة أو السلطنة رسميا ، باعتبارها وصية على أخيها الذي ورث الحكم صغيرا ، " ست الملك " هي ابنة الخليفة " العزيز بالله الفاطمي " ، وقد توفي أبيها تاركا وريثه " المنصور بن العزيز بالله " في عمر الحادية عشرة فقط ، فتولت الأخت الكبرى الوصاية على العرش إلي حين بلوغ اخيها سن الرشد ، وخلال الفترة التي قامت فيها بدور الوصية حققت " ست الملك " نفوذا وسيطرة كبيران ، فتحكمت في كافة الأمور ، وعزلت أخاها جزئيا عن شئون الحكم ، ولكونها لم تتزوج قط فقد انتهز البعض تلك النقطة لإحاطتها بشكوك غير مستحبة ، ولما تولي أخيها الحكم أخيرا حاول تنحيتها واقصائها ، لكن كان للأخت الطموحة نفوذ كبير ، كما كان لها رجالها المخلصين أيضا ، وفي ضربة حظ موفقة تماما تحول الخليفة الصغير إلي واحد من أشد رجال زمن العصور الوسطي غرابة وشذوذ أطوار ، " الحاكم بأمر الله " الذي عرف عنه قراراته وتصرفاته العجيبة ، لكن نهايته كانت أغرب وأشد غموضا ، ففي حادث عجائبي محاط بسلسلة من الشكوك حول التآمر السياسي المحكم ، اختفي الخليفة " الحاكم بأمر الله " في شهر فبراير عام 1021م ، حين خرج ممتطيا بغلته إلي جبل المقطم ، حيث كان يوجد مرصد أمر بإنشائه واعتاد اعتزال الناس فيه ، وبعد فترة وجدت حمارته وثيابه متروكة وحدها ، وعليها آثار دماء ، فظن الكثيرون أنه قتل ، وكان المتهم الرئيسي في تدبير تلك الحادثة هي الأخت الموتورة ، التي حاول " الحاكم " نفيها بعيدا عن شئون الرعية ، بل لقد شكك حتى في أخلاقها وشرفها ، فقيل أنه هددها بإرسال القابلات للكشف عليها ، وباختفاء الحاكم آلت الامور إلي ولده الطفل " الظاهر لإعزاز دين الله " ، فتولت " ست الملك " مرة أخري ، خلال الاعوام الثلاث ( 1021 – 1023م ) ، الوصاية على العرش ، وفي ظل حكم الظاهر تمتعت بنفوذ هائل ، حتى لقد أوقعت بأعدائها ، كما اضطهدت من نادي بألوهية أخيها المختفي ، وهم الدروز ، وانزلت بهم عسفا شديدا ، ودخلت حتى في المفاوضات مع رسل الدولة البيزنطية ، توفيت " ست الملك " عام 1023 تاركة خلفها اسما نسائيا ، مارس سلطة ونفوذا قلما وجد له نظير في تاريخ المسلمين كله .
المقال القادم : الجزء الثاني ( نساء حكمن ديار الإسلام في النور )