كثير من القرارات والآراء يشعر أصحابها أنهم المعصومين من الخطأ، بل يتوهمون بقدسية اجتهاداتهم ، على الرغم من أنه يجب أن يصدر القرار السليم بعد سماع آراء المعاونين والمستشاريين جميعا ،ليكون القرار أكثر ما يكون ملاءمة للظروف التى صدر فيها وأكثر تحقيقاً للهدف الذى صدر من أجله ،فالسمة الأساسية للقرار الفاشل هى أن صاحب القرار أساء اختيار مستشاريه فأختارهم من الجهلاء أو الجبناء أو المنافقين ، أو أنه أتخذ قراره الفاشل لأنه يرى فى نفسه أنه معصوم من الخطأ ...وهو ماترسخ فى أذهان الكثير بمعاملة صاحب القرار الفاشل على أنه الولى الفقيه ، على الرغم من أن الفقه الإسلامي لاعصمه فيه ،فقد أتفق فقهاء الإسلام على أن الشرع او الشريعة أو الشرعة ،هو ما نزل به الوحى على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحكام فى الكتاب والسنة ،مما يتعلق بالعقائد والوجدانيات وأفعال المكلفين قطعيا كان أو ظنيا .
واصطلاح الفقه يعبر عن أحد مدلولين ،المدلول الأول يقصد به العلم بالأحكام الشرعية العملية من ادلتها التفصيلية وهو علم مستنبط بالرأى والاجتهاد ، ويحتاج فيه إلى النظر والتأمل ..
أما المدلول الثانى للفقه فهو مجموع الأحكام التى توصل الائمة إلى أستنباطها من الأدلة التفصيلية .
والفقه على اى من المعنيين لا يعتبر تشريعاً من الله سبحانه وتعالى للعباد ولايتمتع بقوة الإلزام والأبدية التى تتصف بها أحكام الشرع الحنيف .
الا ان هناك خلط شديد بين الشريعة والفقه ،ويطلق اسم الشريعة الإسلامية على الفقه وما يتصل به من الأمور ،فالاحكام التى لم ترد فى الكتاب ولا فى السنة نطقا ولا عملا ،وكانت مما أستنبطه المجتهدون من معانى تلك الأحكام ،ولم يجمع عليها أهل الإجماع ،فليست إلا أفهاما وآراء لأربابها ولا تسمى فى الحقيقة شرعا ولا شريعة .
وما نسبت إلى الشرع وسميت أحكاما شرعية فى تعريف الفقه وفى غيره من المواطن ألا لأنها مستنبطة من الشرع ،لا لأنها منه ...
وقد حدد الشيخ عبد الوهاب خلاف ،أربع طوائف من الأحكام المنسوبة إلى الأسلام مبينا إلزام كل منها :-
النوع الأول :أحكام مصادرها نصوص صريحة قطعية فى ثبوتها ،وقطعية فى دلالتها على أحكامها ،وهذه أحكام لازمة وعلى كل مسلم إتباعها ولا يجوز أن يختلف المسلمون فيها ..
النوع الثانى :أحكام مصادرها نصوص ظنية فى الدلالة على أحكامها ،وهذه فيها مجال للأجتهاد ،لكن فى حدود تفهم النص ولا يخرج عن دائرته ..
النوع الثالث :أحكام لم تدل عليها نصوص لا قطعية ولا ظنية ولكن انعقد عليها أجماع المجتهدين وهذه لا مجال للأجتهاد فيها ، ويجب على المسلم أن يعمل بها . ولكن يجب التحقق من أن الحكم انعقد عليه اجماع المجتهدين فى عصر من العصور ،ولا يكفى مجرد ادعاء هذا الإجماع ..
النوع الرابع :أحكام لم تدل عليها نصوص لا قطعية ولا ظنية ولم ينعقد عليها اجماع من المجتهدين فى عصر من العصور ،كأكثر الأحكام الفقهية التى زخرت بها كتب فقه الحنفية والمالكية والشافعية والحنابله والزيدية والشيعة الأمامية ..فهذه الأحكام ما هى إلا أستنباطات لأفراد من المجتهدين أستنبطوها حسب ما وصلت إليه عقولهم وما أحاط بهم من الظروف والأحوال والملابسات وليست أحكاما لازمة لوقائعها ..
فيجوز لأهل الإجتهاد فى عصرهم وبعد عصرهم أن يخالفوهم فى أستنباطهم كما جاز للمجتهدين المتعاصرين أن يخالف بعضهم بعضا ،وكما جاز للمجتهد الواحد أن يرجع عن اجتهاده السابق إلى اجتهاد لاحق ..فالمجتهد برأيه فى واقعة ليس قوله حجة ملزمة لكافة المسلمين ولا يجب على المسلمين أتباعه فى كل بلد وفى كل عصر ، وإنما قوله حجة ملزمة له هو ..
وقد حدد الإمام أبو حنيفة خطته فى اجتهاده ..إنى أخذ بكتاب الله إذا وجدته ،فما لم أجده فيه أخذت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والآثار الصحاح عنه التى فشت فى أيدى الثقات .فإذا لم أجد فى كتاب الله ولا فى سنة رسوله أخذت بقول أصحابه من شئت وادع من شئت ثم لا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم .فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبى والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب ،فلى أن اجتهد كما أجتهدوا ..
ويروى أن الإمام مالك بن أنس كان كثيرا مايردد هذه العبارة :
ما منا إلا مصيب ومخطئ عدا المعصوم صاحب هذا القبر ويشير إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ...واليوم تجد الذى يرى أنه معصوم من الخطأ فى الرأى ،ويجد مجموعة من المنافقين ليقولوا له تمام مظبوط أنت مش ممكن تغلط !!