02:44 pm 23/09/2022
| رأي
| 1657
محمد موافى..روائي صاحب عوالم مدهشة ولغة رصينة
عمار علي حسن
قال لى: ذهب زمن المذيعين الأكفاء بلا رجعة، أين الذين نسمعهم الآن من طلاوة محمود سلطان وأحمد سمير واقتدارهما؟
قلت له: مصر لا تخلو أبدا من أمثالهما، لكننا قومٌ نقدّس ما مضى.
ابتسم وقال: اضرب لى مثلًا.
قلت له على الفور: محمد موافى.
قال: لا أعرفه، أو ربما ضاع صوته من أذنى، ووجهه من عينىّ، مع انصرافى عن نشرات الأخبار.
قلت: لكنك قارئ نهم، فإن لم تكن تعرف الرجل مذيعًا، فأعتقد أن اسمه قد مر عليك روائيًا.
صمت فى شرود قصير، ضاقت له عيناه، وزمت شفتاه، وكأنه يصطاد الاسم من جوف ذاكرة مزدحمة بالأسماء، ثم عاد إليَّ قائلا: تقصد صاحب روايات «سفر الشتات» و«حكاية فخرانى» و«ويونس ومريم» و«آيات عاشق»؟
أجبته: نعم، هو.
قال: أعرفه، وأتصور أنه صاحب عوالم مدهشة ولغة رصينة، يراوح بين واقع حبيس وتصوف محلق، وينهل من بئر عميقة على مهل.
قلت: هو يعرف أسرار اللغة العربية جيدًا، فقد قرأ بعض عيونها الكبرى، وفى السنوات الأخيرة انشغل بقراءة الآداب الأجنبية المترجمة، فحقق، ربما دون أن يدرى، ما كان يوصى به طه حسين الأدباء دومًا من إلمامٍ بتراث العرب وانفتاحٍ على الأدب العالمى.
قال: أظنه هكذا.
قلت: هو فاق سلطان وسمير بالكتابة، أما صوّته الفخيم المستقيم فهو مثلهما إن لم يفوقهما.
سأل: لهذه الدرجة؟
أجبته: ادخل على صفحته فى «فيسبوك» أو حسابه فى «تويتر»، وانصت إليه وهو يقرأ قصائد شعر، أو مقاطع من روايات وقصص، أو صفحات من كتب قديمة.
هكذا يكون موضع محمد موافى، الذى يشكو دومًا من النقاد لعدم التفاتهم إليه أديبًا، وشكواه الأقل مما جرى لأبناء مهنته فى الإعلام المصرى من تهميشٍ فى بلدٍ ساهم بقوة فى صناعة الإعلام العربى كله، من المحيط إلى الخليج، ثم استكان راضيًا بالفتات، رغم أنه لا ينقصه شىء لتكون له قناة فضائية إخبارية تزاحم «الجزيرة» و«العربية» و«الميادين».
فى الأدب، يعول موافى دومًا على القارئ، فهو الذى يكتب له بالأساس، وينتشله أحيانا من قنوطه. أخبرنى أن شابًا سعى إليه من الزقازيق وطلب لقاءه، فجاءه وفى يده رواية «آيات عاشق»، وبسط صفحاتها أمامه، ليجده قد خط فيها بقلمه تحت عبارات وصور وشخصيات وحكايات، وكتب كثيرا فى هامشيها، على اليمين واليسار، ثم قال له:
ـ أتلهف دائما على كل إبداع جديد لك.
سمعت هذه الواقعة منه فى الهاتف مرة وفى جلسة المقهى مرة ثانية، وقلت له:
ـ لمثل هذا نكتب، فامضِ فى طريقك، وسيأتيك الخير يومًا.. وإن تأخر، أو ظننته هكذا.
يكتب موافى الآن روايته الرابعة، ويفكر فى كتابة قصص قصيرة مستقبلًا، ولديه من الحكايات الكثير، تعرف هذا حين تنصت إليه، وهو يسرد على مسامعك بعض تجاربه الغنية بين الناس، ومع بنى مهنته، وفى رحاب أهله فى الصعيد، وبصحبة الذين عرفهم فى المدينة، وكذلك فى حِله هنا فى مصر، وترحاله إلى بلدان شتى للعمل أو التنزه، وفى مخالطته لبسطاء الناس وعلية القوم فى آن.
أقول له: عالمك ثرى، فلا تجعله يفلت من يدك، فيعدنى بأن كل هذا سيصير كتابة جلية.. وأنتظر، وأنا واثق من أن صاحب هذه القريحة والذائقة والتجربة لا بد له أن يفى بما وعد.
حين يأتى الحديث عن الجوائز، تغلب صوته مرارة.. لكنه على يقين، مثل بعضنا، بأن الجوائز لا تصنع كاتبا من عدم، ولا تعطى إضافة لكاتب ضعيف، إذ سرعان ما ينطفئ وميضها المصطنع من فوق اسم لا يستحق، فلا يرى الناس فيه إلا ظلاما دامسا.
وحين يتطرق الحديث إلى «الجماعة الثقافية»، يتساءل: أين هى؟ ومن هى؟، وأظنه يعرفها جيدا، لكن سؤاله لا يجافى الصواب، حين يأتى على ذِكر الشلل الأدبية، التى يوسع كل فرد فيها للآخر، حتى إن لم يكن يكن جديرا بهذا.
روايات موافى لا تهدى عوارفها لقارئ متعجل، يحصدها وهو يتكئ على جنبه، أو يتلهى عنها بشىء آخر، أو يبحث عن تسلية عابرة، إنما على من يقرأها أن يجلس معتدلا، فاتحا عقله وصدره للكلمات المصوغة بعناية، والحكايات المصنوعة بصبر، والدهاليز التى تنبت على مجرى السرد، ثم لا تلبث أن تعود إليه، لتعززه وتغذيه كنهيرات صغيرة تصب فى النهر الواسع فيتدفق عفيًا. هذا النهر هو الرواية كلها، من ألفها إلى يائها، ومن مبتدأها إلى منتهاها. إنها قِطع أدبية مسبوكة على مهل، تتوالى فى عسر لمن يخطفون الجمال والمعانى خطفا، وفى يسر لمن كانوا يبحثون عن صناعة روائية ثقيلة، لا تتسرب أشكالها ومضامينها من أذهانهم سريعا.
لا يشافه موافى فى رواياته، فكلها بنت الكتابة المقصودة، حتى فى الحوارات الجارية على ألسنة شخصياتها، وربما لو كتب مثلما يحكى أو كما يريد أن تعبر هذه الشخصيات المختلفة، لهان الأمر وانجذب قراء أكثر، لكن موافى من الذين يؤمنون بأن الرواية ليست مجرد حكاية طويلة، إنما هى عالم مشحون بالجماليات والمعانى والقيم والمعارف المتنوعة، فهو يميل إلى هذا اللون حين يقرأ لغيره، فيحدثك عن إعجابه بروايات أورهان باموق، الذى يفرد لها المراجع والحوليات التاريخية فيهضمها قبل أن يجلس لكتابتها، ولا يرى فى رواية بنت بلده أليف شافاق «قواعد العشق الأربعون» ما يستحق الضجة التى أثيرت حولها، ولم تثر حول روايات أخرى لها أفضل كثيرا.
إعجاب موافى بالروايات العميقة يطمئننى على أنه سيبقى فى نجاة من الاستلاب حيال جمهور قراء يُقبل أغلبه على العابر والسطحى والمسلى، الذى لا يترك علامة فى الأذهان ولا الوجدان، ويجعلنى أضعه فى مصاف أولئك الكتاب الذين يدركون أن الزبد سيذهب جفاء، وأن ما ينفع الناس سيمكث فى الأرض، حتى لو وطأته أقدام اللاهثين بعض الوقت، فى غفلة أو جهل أو تسرع.