للاعلان

Mon,25 Nov 2024

عثمان علام

قضية الفقر أم قضية الجنس أيهما أكثر أهمية ولها الأولوية؟

قضية الفقر أم قضية الجنس أيهما أكثر أهمية ولها الأولوية؟

الكاتب : نوال السعداوي |

04:11 pm 02/11/2020

| رأي

| 2243


أقرأ أيضا: Test

حينما صدر كتابى الأول عن قضايا النساء منذ نصف قرن تقريبًا، قلت: «القهر الاقتصادى والقهر الجنسى متلازمان في حياة النساء، من مختلف الطبقات». واشتمل الكتاب على نقد النظام الرأسمالى الأبوى، وربط بين مشاكل المرأة الجنسية مثل الختان والعذرية والمفهوم الخاطئ للشرف وبيع النساء والفتيات الصغيرات في سوق الزواج، وبين مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية مثل الفقر والبطالة والتمييز في التربية بين الولد والبنت وغيرها.
بالطبع تمت مصادرة الكتاب بقرار حكومى، وجمعه من المكتبات العامة بتهمة الشيوعية، وإحداث بلبلة، وتحريض على الفتنة والفساد الأخلاقى، ودعوة صريحة إلى الفسق والفجور، وتهديد الاستقرار لقلب نظام الحكم.
في المجتمع والإعلام المصرى، تنوع الهجوم ضدى حسب التيارات السياسية والدينية المتصارعة. في منتصف القرن العشرين اتهمنى اليمين الإسلامى والقبطى معًا بالخروج عن «الدين والتقاليد والشرع والفضيلة». واتهمنى اليسار الشيوعى والاشتراكى بـ«تقليد الغرب الذي يهتم بالجنس، وأننى لا أهتم بقضايا الطبقات الكادحة من الفلاحات والعاملات الفقيرات المعدمات».
كنت شابة في مقتبل العمر، لا أعرف بحور السياسة العويصة، المتقلبة حسب المصالح. أتعرض كل يوم للخداع السياسى وغير السياسى، شابة ساذجة تؤمن بأن الإنسان برىء ونقى وصادق، حتى يثبت العكس، لهذا كانت هذه الاتهامات تؤرقنى. لم أكن أريد الانتماء إلى أي شلة من هذه الشلل السياسية والأدبية، يمين، يسار، إخوان، معارضة أو حكومة. كلهم كانوا يتشابهون في النزعة إلى السيطرة والخداع، يتشدقون بالحرية والعدالة والصدق والإخلاص، حتى أشهدهم في الحياة الواقعية، فإذا بالقول يناقض الفعل، خاصة فيما يتعلق بعلاقة الرجل بالمرأة، أو علاقة الزوج بزوجته. يتشدقون بالدفاع عن الطبقات الفقيرة أو النساء المقهورات، وهم يعاملون الخدم في بيوتهم معاملة العبيد والجوارى. يكتبون، ويعقدون الندوات والمؤتمرات، ويظهرون في التليفزيون، مدافعين عن حق المرأة في الحرية والاستقلال والتميز في العمل والإبداع، يتنافسون في إقامة علاقات مع المرأة الحرة المستقلة المتميزة، بشرط ألا تصبح زوجة لأحدهم.
بالطبع تعلمت من تجاربى في الحياة أكثر مما تعلمت من الكتب. لم أقتنع أبدًا بالازدواجية السائدة، أن يكون للإنسان وجهان متناقضان، أن تكون له حياة علنية وأخرى خفية نقيضة لها. ربما كان ذلك بسبب تربية أمى وأبى. نشأت على الثقة بنفسى وعقلى، والصدق في القول والإخلاص في العمل، كلمتى شرف لا أخونها، وإن كانت شفهية لم تُدون في عقد مكتوب وأمام شهود. هذه القيم التي تُغرس في الطفولة، وتنمو وتنمو لتصبح شجرة عملاقة، من الصعب اقتلاعها.
منذ طفولتى رأيت القهر المزدوج الواقع على النساء الريفيات الفقيرات من أسرتى، قهر الفقر، وقهر الجنس، الزوج أو أحد أفراد الأسرة أو العائلة. أنا نفسى تعرضت لهذا القهر المزدوج في البيت والشارع والمدرسة، ورغم ارتفاع وعى أمى وأبى عن الآخرين، فإننى تمردت عليهما حينما حاولا تقييد حريتى وانطلاقى إلى آفاق أرحب.
كان عقلى يكسر الحدود المفروضة، والثوابت الموروثة من عصور العبودية. بالطبع دفعت ثمنًا باهظًا من حياتى العامة والخاصة مقابل حرية عقلى. لكننى لم أندم أبدًا على الطريق الذي اخترته في حياتى. ليس مفروشًا بالورود، فيه الكثير من الأشواك، الألم والمعاناة والحرمان من أساسيات الراحة والأمان. لكن سعادتى الفكرية والأدبية الإبداعية تغلبت على مكاسب أخرى أقل قيمة في نظرى، مثل الحصول على المال أو المناصب أو الجوائز أو رضا الناس والمجتمع، وغيرها مما يُغرى الكثيرين.
عشت العصر الملكى أيام الاستعمار البريطانى في الطفولة والمراهقة، ثم عشت في شبابى أيام عبدالناصر، ثم عصر السادات، ثم عصر مبارك. أربعة عهود مختلفة عشتها، وتمردت عليها، دون أن أدرك ما يسمونه الكهولة أو الشيخوخة. وما الشيخوخة إلا فقدان الأمل في التغيير، والتوقف عن التمرد. وامتد بى العمر لأعيش الثورة المصرية 2011، و2013، ليتأكد إيمانى بالتغيير، ويتجدد الأمل في دمى.
هناك لحظات ضعف تمر بنا، حين تشتد الأزمات والقهر من حولنا، حين يتخلى عنا الجميع، خوفًا من بطش السلطة، حتى أقرب الأقرباء، وأخلص الأصدقاء، قد يقفز بعيدًا في قارب نجاة. نواجه مصيرنا وحدنا، في منفى أو سجن أو قبو منعزل تحت الأرض أو بيت منبوذ.
هنا قد تمر لحظة تردد، نسأل أنفسنا: «هل نواصل الطريق، أم نتراجع ونمشى مع القطيع؟».
مررت بهذه اللحظات من حين إلى آخر، لكنها لحظات مارقة تمر بسرعة البرق، تعقبها بارقة أمل جديدة، نجمة تبرق أمامى فجأة من حيث لا أدرى. ربما هي الطفلة في أعماقى المتمردة أبدًا لا تموت، وإن قتلوها لحظة تصحو من جديد. كيف؟ يأتينى صوتها الطفولى العنيد من أعماقى العميقة يهتف: «يا نوال يا نوال، انهضى.. لا يهمك.. لكل جواد كبوة». صوتها يشبه صوت أمى أو صوت أبى، ينتشلنى بيدين كبيرتين من الغرق، والموت.
مازلت أتذكر كاتبة شابة، تخرجت في كلية الطب، ترتدى الحجاب، تعرضت للهجوم العنيف بعد أن كتبت مقالًا عن التحرير الجنسى للمرأة، وقالت إن تحرير الجسد يتبع تحرير العقل لأن الفصل بين الجسد والعقل أمر مستحيل، وشرحت مخاطر الكبت الجنسى على صحة المرأة الجسدية والنفسية.
أصبحت الفتاة مؤرَّقة من شدة الهجوم عليها، اتهموها بأنها من عملاء الصهيونية أو جاسوسة تخون الوطن، قالوا عنها فاجرة داعرة تشجع النساء على الانفلات الجنسى والاستهتار بالعفة والفضيلة والعذرية وتخطط لضرب الدين والوطنية. بعضهم كان أكثر تأدبًا وقال لها: «كيف تكتبين عن الحرية الجنسية للمرأة، ونصف الشعب المصرى يعيش تحت خط الفقر، وملايين النساء تسعى وراء لقمة العيش بالعرق والدم؟!».
بعد الأرق والمعاناة الطويلة، ارتدت الفتاة الحجاب، ثم نشرت مقالًا جديدًا عن مشكلة الفقر بين النساء المصريات، نالت المدح ممنْ هاجموها من قبل، خاصة بعد ظهور صورتها مع المقال مرتدية الحجاب. واستمرت تكتب عن مشاكل الفقر، ونسيت مقالها الأول عن مشاكل الجنس.
سألتها: «هل أنتِ مستريحة الآن، وراضية عن نفسك؟». قالت الفتاة: «أشعر أننى تخليت عن نفسى الحقيقية، ارتديت الحجاب لأصبح مثل غالبية الفتيات والنساء، وأصبحت أكتب المقالات لأنال المديح وليس الذم، أصبحت حائرة، مُشوَّشة، متخبطة».
قلت لها: «الحيرة ضرورية حتى نعيد التفكير في أنفسنا. تكلمى مع نفسك في هدوء واسأليها ماذا تريد؟ استمعى إلى الصوت البعيد في أعماقك، القادم من طفولتك ونفسك الحقيقية، استمعى جيدًا، ثم اكتبى ما يقوله لكِ هذا الصوت».

أقرأ أيضا: توقيع اتفاقيتين للمساهمة المجتمعية لقطاع البترول في دعم الرعاية الصحية بمطروح وبورسعيد

التعليقات

أستطلاع الرأي

هل تؤيد ضم الشركات متشابهة النشاط الواحد ؟