الكاتب : د نوال السعداوي |
11:53 pm 18/11/2019
| رأي
| 3261
فى العاشرة من عمرها أدركها الحيض، أراد أبوها أن تبقى بالبيت وترتدى النقاب مثل أمها. نبوية الخادمة طفلة من عمرها، تقف أمام الحوض تغسل الصحون، المطبخ ضيق مظلم، ارتطم كتفها بظهر نبوية وهى تفتح باب الثلاجة، لأول مرة تكتشف أن لنبوية ردفين، جاءت من القرية بجسم ناحل جاف كعود الذرة، لا تعرف ظهرها من بطنها، لولا اسمها نبوية لظنت أنها ولد.
تدور برأسها أمام المرآة وظهرها عارٍ عن آخره، اصطدمت عيناها بعينى أبيها فارتجفت، صورته معلقة على الجدار فى غرفتها، كأنما هما عيناه الحقيقيتان، نظرته الحادة النفاذة كعينى الصقر، السواد كبير بلون الليل، والبياض أكبر، تشوبه حُمرة الغضب، يرتجف جسمها، تشد الجلباب تغطى ظهرها، عيناها ثابتتان فى عينيه رغم الخوف، تعرف أنها مجرد صورته، تستطيع أن تحملق فى عينيه دون أن يراها، فى كل حياتها، لم تستطع أبدا أن ترى عينيه بدقة.
عيناها مشدودتان إلى عينيه فى الصورة، تريد أن تنظر إليه دون أن تطرق إلى الأرض، أن تثبت عينيها فى عينيه، أن تراهما بدقة وتعرفهما وتألفهما، دون جدوى. تقرب عينيها من الصورة، أنفها يلامس السطح المقوى من الورق، أنفاسها تنفث رذاذًا شفافًا فوق أنف أبيها، غضروفه ضخم مقوس، تهتز فوقه بعض خيوط عنكبوت، رقيقة شفافة لا ترى، رأسه مربع أصلع.
تلتف أصابعه الكبيرة حول يدها الصغيرة، يخفق قلبها بالخوف والحب، تتلاحق أنفاسها وتميل برأسها لتلثم يده، تلامس شفتاها بشرته الباردة المشعرة، تنفذ إلى أنفها رائحته المميزة وعرق خفيف له نكهة أرض مروية بالطمى، رائحته تسبقه قبل أن يأتى وتبقى معها بعد أن يذهب.
تستلقى على سريرها الصغير على ظهرها شاخصة للسقف، ردفاها الصغيران المكوران، تحسهما لأول مرة فى حياتها، كأنما نبتا هذه اللحظة بقوة شيطانية، تسرى فى جسدها قشعريرة، رعدة مفاجئة تشوبها لذة آثمة، تتحسس ظهرها بأصابع مرتجفة، كتلتان من اللحم تنحشران بينها وبين السرير، تنقلب على وجهها ليزول إحساسها بهما، يرتفعان فى الهواء ضاغطين بثقلهما على بطنها، تنقلب على جنبها اليمين ثم اليسار، يحتكان بالسرير مع كل شهيق وزفير، تتوقف عن التنفس، لكن أنفاسها ما تلبث أن تتلاحق بقوة، يهتز جسمها ومعه السرير.
هدأت أنفاسها وعاد السكون، تذكرت، آآآه لم تتوضأ قبل أن تنام، تنفست براحة عميقة، هذه الأحاسيس الدنسة تسللت إلى جسدها غير الطاهر.
سارت على أطراف أصابعها إلى الحمام، وقفت أمام الحوض تتوضأ، تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، فجأة تسرب إلى أذنيها همس غريب، هسيس خافت ينبعث من وراء باب المطبخ.
اخترقت عيناها الثقب إلى داخل المطبخ، الكنبة التى تنام عليها نبوية الخادمة خالية، أين راحت؟. فوق البلاط كتلة تتحرك، دققت فيها النظر، كتلة عارية من اللحم تتدحرج على الأرض، لها رأسان، تعرفت على رأس نبوية بضفائرها الطويلة، والآخر، منْ هو؟. دققت النظر، تعرفت على رأس أبيها المربع الأصلع وأنفه المقوّس الكبير.
كان يمكن أن تسقط مغشيًا عليها، لولا أنها التصقت بثقب الباب، أصبحت جزءًا من الثقب، والكتلة الكبيرة العارية تتدحرج أمام عينيها، يصبح رأس نبوية على البلاط، يرتطم بصفيحة الزبالة، ويرتفع رأس أبيها إلى فوق ويخبط فى قاع الحوض، ثم سرعان ما يتبادلان المواقع، فيرتطم رأس نبوية بقاع الحوض ويهبط رأس أبيها إلى حيث صفيحة الزبالة، ثم ما لبث أن اختفى الرأسان تحت رف الحلل، ولم تبق إلا أربع أقدام، بأصابعها العشرين، تنتفض فى ارتعاشات سريعة، تشابكت والتحمت بعضها بالبعض بشكل عجيب، كحيوان مائى متعدد الأذرع أو أخطبوط.
لم تعرف كيف انفصل جسمها عن الثقب، كيف عادت إلى غرفتها تتحسس رأسها فى المرآة، تريد التأكد، حقيقة أو خيال؟ جسدها ينتفض ويدور حول نفسه فى اهتزازات عنيفة، وبينما هى تدور اصطدمت عيناها بردفيها يدوران معها، امتدت ذراعها تكشف الجلباب عن ظهرها ليتعرى بالكامل، ترمق عينى أبيها فوق الجدار دون وجل، لا تكف عيناها عن النظر إلى عينيه دون أن تتغطى، دون أن تطرق بعينيها إلى الأرض، أنفه الكبير أصبح قوسًا حادًا يشطر وجهه نصفين، خيط العنكبوت يلتصق بقمة الغضروف، وهى تقترب منه أكثر وأكثر، أنفاسها تتلاحق مع رذاذ لعابها، تنفخ خيوط العنكبوت عن أنفه، لكن كلما تنفخها تلتصق أكثر وأكثر، امتدت أصابعها المدببة بأظافرها الطويلة الحادة، تنزع الخيوط الشفافة الرقيقة، انتزعتها كلها كلها، وانتزعت معها الورق المقوّى.
ذابت الصورة فى لعابها ودموعها ومخاطها، وراحت تتساقط من بين أصابعها إلى الأرض فتافيت صغيرة