الكاتب : أحمد الشهاوي |
11:05 pm 15/11/2019
| رأي
| 2092
العُنوان ملكُ قارئه، بمعنى أن المُتلقِّى جُزءٌ من النص، أو أنَّ النصَّ يخصُّه وهو كاتبُه، وأرى أنَّ العنوان قد يستغرق من صاحب الكتاب ثانيةً أو بضع ثوانٍ، وقد يأخذ سنةً كاملةً من التفكير، والبحث، والاختيار، والمُفاضلة، وسؤال الأصدقاء من دائرة الشاعر أو الكاتب، فالكتابة قد تكون أيسر من اختيار العنوان.
وهناك عناوين تأسرُ، ولا يمكنُ نسيانها، تمنيتُ أن أكونَ صاحبها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: تُرجمان الأشواق، فصُوص الحكم لمحى الدين بن عربى، فيه ما فيه لجلال الدين الرومى، وهو جزءٌ من بيت شعرٍ عربيٍّ، بمعنى أنه ليس مترجمًا عن الفارسية التي كتب بها الرومى، طوق الحمامة لابن حزم الأندلسى، المواقف والمخاطبات للنِفَّرى (والعنوان هنا مطابقٌ لشكليْ المواقف والمخاطبات) فصل المقال لابن رُشد (وقد صار العُنوان قولا سائرًا بين القوم) كشف الظنون لحاجى خليفة (مع أن الكتاب متخصِّصٌ في الببلوجرافيا).
والعنوان جزءٌ من النصِّ بل ويتمِّمُهُ، وليس منفصلا عنه، هو «طاقةٌ فنية» يضيفُ إلى النصِّ، بل هو البابُ للدخول إلى بيت النصِّ، حيث يقدِّمُ متْنه، ويُوحِى بما فيه، وهو عاملٌ مساعدٌ حيويٌّ وضروريٌّ في معرفة النصِّ، وليس اعتباطيًّا أو زائدًا؛ لأنه أوَّلُ ما يواجه القارئ ويوجِّهُه ويجذبُه، فهو يحملُ الضَّوءَ بالدخُول، أو يؤذن به، ولا ينبغى الاستسهال والتسرُّع في اختيار العُنوان، فالعُنوان إن لم يكُن دقيقًا وملائمًا ودالا فإنهُ سينحرفُ بالنصِّ، وسيأخذه بعيدًا عن محتوى متْنِهِ؛ لأنَّ الشاعرَ- مثلا- لا ينشر في حياته أعمالا كثيرةً؛ ومن ثم لابد من التأنِّى، والتروِّى، والتمهل، والدقة، في كتابة العنوان الذي ينبغى أن يأتى بعد الفرُوغ من الكتابة والمُراجعة، وتحرير النص، وتخليصه من زوائده وإسهاباته وترادفاته وشروحه واستطراداته.
فالعنوان هو المرآة التي يرى القارئ النصَّ من خلالها، ولا ينبغى لهذه المرآة أن تكون متهشِّمة أو مكسُورة أو مُغبَّشة أو مُحدَّبة أو مُقعَّرة، ولكنْ لابد أن تكون مستوية بحيث يستطيعُ المرءُ النظرَ من خلالها إلى نسيج النص بشكلٍ صحيح ومساوٍ لطبيعته الأصلية؛ لأنه يعكس طبيعة النص دون زيادة أو نقصان أو تشويه أو إزاغة، وتكون الصورة الناشئة واضحة؛ لأنَّ العُنوان يوحِّد ألوانَ النصِّ وأطيافه ونُوره المُوزَّع أو المُجمَّع وظلالهما.
فهى تحيلُ إلى متْن الكتاب، لأنَّ العُنوانَ نُواةٌ تكبرُ في النصِّ، وليس مُجرَّد عملٍ هامشيٍّ يقوم به صاحب الكتاب، ومثلما اهتم العرب بمطالع النصُوص فقد اهتموا كثيرًا بعناوين كُتبهم، كما أنَّ الدراسات الحديثة أسَّست علمًا خاصًّا بالعنوان (علم العنونة)، وقد اهتم به مفكِّرون مثل جيرار جينيت، وليو هوك (له كتاب اسمُه: سمة العنوان) لوسيان وجولدمان، شارل جريفل، هنرى ميتران، شارل جريفل، روجر روفر، فرانسوا فرورى، أندرى فونتانا، كلود دوتشى، روبرت شولز، جون كوهين، جون مولينو، وغيرهم.
وأنا شخصيًّا أعتبر العنوان نصًّا وحدَهُ، يتوحَّد مع نصِّ الكتاب، وهو سُلطةٌ عليا، تمارسُ تأثيرَها وإغراءَها ونفوذَها على المُتلقِّى، إذ هو المفتاح الدلالى والرمزى المهم، يرشِد ويشِى، ويؤدِّى وظائفَ عديدة، لأنه يُغْنِى المعنى، ويفتح وعى القارئ على مُكوِّنات النصِّ وعناصره.
[email protected]