الكاتب : محمد علي إبراهيم |
02:33 pm 28/10/2019
| رأي
| 2163
فى شبابنا حسدنا لبنان على ديمقراطيته.. وطبيعته الخلابة. وتعايش طوائفه المختلفة مع بعضها.. اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975.. دخلت سوريا لتحتله بزعم الدفاع عنه.. نهشه الفلسطينيون بحجة المقاومة.. خرج مثخنًا بجراح لم تندمل بعد اتفاق الطائف.. ورغم جهود الراحل رفيق الحريرى فى إعمار وتنمية لبنان، ظل القرار السياسى فى يد سوريا.. الغزو الإسرائيلى المتكرر لأراضيه منذ 1978 واحتلال الجنوب اللبنانى ومذابح صابرا وشاتيلا وعملية عناقيد الغضب لم تضعف إرادة ووطنية اللبنانيين.
لكن المتربصين بالوطن الجميل قرروا تفعيل دستور 1943 وأصبح اللبنانيون عبيداً للطائفية المذهبية والانتماء السياسى.. انفصل الحكام عن المحكومين.. انتشر الفساد المالى والسياسى.. فمقابل اللصوص الموارنة هناك نظراؤهم من الشيعة والسنة والأرثوذكس حتى العلويين والبروتستانت والسريان.
هذا الفساد تسلل إلى المواطن.. فهو يرى عنفًا فى كل موقع سواء البرلمان أو الحكومة أو رئيسها وحتى أصحاب الفخامة.. ولأن اللبنانى اعتاد أن يعيش تحت كل الظروف فقد قبل بزيادة القيود على الكلام.. وتعاظم حصانة الكبار الذين حولوا مفهوم الفضيلة إلى رذيلة.. أصبح كشف الخطأ جريمة وفضح الخطايا كارثة وإدانة المستهترين بمقادير الشعب خروجًا على الوحدة الوطنية..
اطمأن الحكام إلى أن الشعب نسى حقوقه وواجباته.. كان النسيان حتمًا مقضيًا.. فضغط الحاجة إلى الوظيفة والخبز حول المواطن إلى أجير أو بالأحرى عبد لمن وظفه حتى لو ساعيًا فى مصلحة أو حاجبًا فى محكمة.. اللبنانيون الذين كانوا يوما يفخرون بتعليمهم داسوا على شهاداتهم الجامعية والمدرسية من أجل مستقبل أولادهم كى يطعموهم الشهد ولكنه تحول لعلقم..
.. تدريجيًا تحول المواطن إلى عبد للزعيم سواء كان رئيس طائفة أو نائبًا أو وزيرًا.. نجح الفاسدون الكبار فى ربط اللبنانيين بسلسلة الوظيفة والتعليم وتأمين المستقبل فى الخارج.. صار أمل اللبنانى خروج أبنائه للمهجر من أجل عيش أفضل.. وهكذا أصبح الحكام والمحكومون «مؤقتين» على الوطن.. لا هم أهله ولا هو بلدهم.
أقصى احتجاجات اللبنانيين على حكامهم كان إطلاق النكات والتندر على صفقات الكبار المحصنين ضد الانتقاد فى المقاهى.. أما إذا كان المعترضون من طائفة أخرى غير تلك المدانة ورئيسها بالفساد فإنهم يمارسون الانتقاد فى منازلهم ويسخرون من الأوضاع بين أبناء عشيرتهم فقط.لكن فجأة تحقق الحلم وتوحد المتظاهرون من كل الطوائف تحت علم واحد.. وطئوا العصبيات وثاروا ضد الظلم وأهله.. أسقط الجمهور أى نفوذ أجنبى والمرجعيات اللبنانية التى تستند إليه.. توحد اللبنانيون بعد أن جاعوا وصاروا يلتمسون الطعام والماء عند «قبضايات» كل زعيم طائفة أو حزب. انتبه الشعب فجأة إلى حقوقه ووحدته.. تذكر أنه كان واحدًا فقسموه بذريعة التمثيل المذهبى والطائفى.. شعارات المتظاهرين التى تفجرت مثل لا حل إلا برحيل كل الحكام لأن الشعب هو صاحب القرار والمصير- تسيدت المشهد.. فضح اللبنانيون رئيس حكومتهم الذى أنفق ملايين الدولارات على عارضة أزياء.. عايروه بأنه لولا الرئيس الفرنسى ماكرون لظل مسجونًا فى السعودية.
داس المتظاهرون على كل صور الزعماء والنواب فى أكبر انتفاضة ضد الفساد.. المظاهرات كانت بمثابة محاكم شعبية للذين سرقوا خطوط السكك الحديدية ليستعيدوا الأرض التى باعوها للدولة من قبل حتى يبنوا عليها الكومبوندات والبنايات ذات المسابح الخاصة.. سرقوا أراضى الشعب مرتين.. قضوا على الزراعة ليشجعوا الاستيراد لأن أرباحه أعلى.. دمروا الصناعة الوطنية وأغلقوا المصانع ليتباهى اللبنانيون بالماركات العالمية بعد أن كانوا يفخرون بثيابهم.
بدون إعداد أو تنسيق أو ترتيب مسبق انتبه اللبنانيون إلى أن وطنهم تتم سرقته من خلال ألغام الطائفية وأيقنوا أنهم شعب واحد فى المطالب والطموحات.. الشخصية منها والوطنية.. اليومية والمستقلة. انتبه اللبنانيون بعد طول سبات واستعباد إلى أنهم بلا مستشفيات حكومية ولا مدارس رسمية حتى الجامعة الوطنية أغلقوها. ربما لن تنتصر انتفاضة لبنان.. نصف انتصار يكفى.. أو ربع فوز.. لكن الانتصار الحقيقى أن نصر الله لم يستطع ممارسة نفوذه كما حدث فى مايو 2007 عندما احتل لبنان.. ولا البطريرك ناشد المسيحيين الدفاع عن الكنيسة.. ولا تكتل 14 آذار صمد أمام الغضب.. الشعوب إذا غضبت لن تسكتها مدافع أو نفوذ أو شعارات. لا يعرف أهل الحكم الحاليون المنعمون فى قصورهم المطلة على مرافئ خاصة ترابط أمامها يخوتخم الذهبية حلولًا لأزمات الوطن.. حتى لو عرفوها فإنهم يتجاهلونها خوفًا من أن تسحب من نفوذهم السياسى والطائفى والدينى.. الحل الأولى أن يغير الحكام أولوياتهم ولغة خطابهم ويتنازلوا عن عنجهيتهم وغرورهم.. اتقوا الله فى لبنان.. الدعوة التى أطلقها السادات بعد اغتيال كمال جنبلاط لا تزال صالحة للآن.. كانوا يراهنون أن الثورة فى لبنان مستحيلة.. لكن الوطن يستحق نسف الاستحالة.. وإلا سيسقطه الذين يحكمونه.
كانت الثورة مستحيلة فى بلاد العشرين طائفة؛ فإذا هى حاضرة بقوة مليونية. بدون تحقيق مطالب الشعب ستظل الثورة أو الانتفاضة أو أى ما كان اسمها مستمرة.. باحبك يا لبنان!