11:51 am 16/09/2019
| رأي
| 2666
وتستيقظ ُيوم الأحد الماضى على خَبْر رحيل فضيلة العلّامة الكبير الدكتور سعد جاويش.. ويعلن عن مفارقة جسده الشّريف.. ورحيل روحه الطاّهرة.. تشيعه نقاء سريرته.. وعلمه المتهادى على قدمين فى رفعة وسموّ.. ورطب أثره وغِنى آثاره يغشى كلّ من يرافقه؛ ويرزقه الله جواره؛ خُطى دنيا؛ ودروب علم؛ وفقه دين؛ وإنسانية نادرة..
إنّه مولانا وصاحب القامة العلميّة الشامخة.. عالم فاضل.. ورجلٌ من زمنٍ جميل.. ومثل أخلاقيّة يُقْتَدى بها.. وسلوك يخجلك فى شديد تواضعه؛ وشموخ قول وعمل؛ مباركٌ بغزارة عِلمه..
إنّه الدكتور سعد جاويش المعلّم الفذّ؛ وعضو هيئة كبار علماء الأزهر؛ واستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر..
وعندما يمنحك الله من عطايا السماء القُرب منه؛ تحفّك الملائكة.. ويظلّك بعضاً مِنْ وقاره.. وهدى نوره.. وتفترشُ روحك بهجة الإيمان.. وينيرُ عقلك بهاء الوضوح.. ويغسلُ أضغاث فكرك بغيث الرؤى وضياء الحِكْمَة.. وتنفرجُ سريرة نفسك بوقار الإسلام.. ويشبعك حلاوة القرآن.. وتُروى بشَهَدِ علم الحديث..
إنّه واحدٌ من علماءٍ؛ ينطبقُ عليهم سادة الناس وقادتهم الأجلَّاء،.. ومنارات الأرض.. وورثة الأنبياء.. وخيار البشرِ.. ومصدر أمجاد الأمم.. وعنوان سموّها وتفوّقها.. وروّاده إلى السعادة الأبدية.. وشرف الدّارين..
مولانا الراحل العظيم كان يخشى الله حقيقة.. ويتدبّر كتابه على أفضل وجه.. فغدا من الذين لا يستوون وبقية الناس( قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لايعلمون).. فقد كان عالم سريع الاستحضار.. مُحِبّ للرسول صلى الله عليه وسلم وسنّته.. صادق اللسان.. قريب الدمعة ولين القلب.. ينشرحُ صدره؛ ويتسع لكل طالب علم..
إنّه مولانا العالم الجليل الراحل؛ الذى ماكاد ينتهى من درسه أو خطبته إلا ويحمرّ وجهه الأبيض الجميل.. المزدان بسمت أهل الجنة.. ويتدفق النور الوردىّ على خديّه.. وينظرُ إلى الأرض فى صادق حَيْاء علماء الأمّة.. وتتأمله مندهشاً ومستصغراً لذاتك.. وإذ به يفجؤك باستفساره الدائم:
ـ أخى الحبيب تُرى هل وُفّقت فى درس اليوم..؟
إنى أخشى الله أن أكون قصّرت..!
يا إلهى..؟
من أنا لأقيّم ذاكَ الكيان الأسمى.. والقيمة الأجلّ.. والقامة الأندر فى تاريخ العلم والإنسانيّة خلال مرافقته فى الندوات الدينية، حيث شرفت ويسجّل لى التاريخ أن أكون بصحبته..
ونحن فى الطريق بالسيارة لتنظيم إحدى الندوات؛ يتصل الراحل الكبير ـ كرم الله مثواه بأعلى جنانه ـ بالعالم الدكتور صبرى عبد الرؤوف استاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، ليفتيه فى مسألة دينية تخصّه!
ويالورع العبد الصّالح.. ويالجمّ تواضع قِمَم أهل العلم.. ويفتح ميكرفون الموبايل ليتضح الصوت أكثر.. ويعلم كل من حوله.. ونصت فى حضرة العلماء.. ود. صبرى يقول له:
ـ يامولانا.. وهل لمثلى يتكلم فى وجودكم.. أنت الاستاذ والمعلم.. بل نتعلّم على أيديكم ونصمت فى حضوركم..
ويردّ صاحب الأدب الجمّ:
ـ نعم.. ولكنى أريد أن أتأكد.. وأخشى أن أغضب الله..
وهل تعرف ماهى المسألة..؟
نقض الوضوء لعدم استخدام الماء.. لأنّ وجه مولانا كان مصاباً بالحساسية.. ووصول الماء إليه يضرّه.. وكان يمسح عليه فقط؛ دون غمره!
،،،،
ولا تزل أمّتى فى خَيْر؛ طالما تخدم أهل العلم والعلماء.. وتحاول أن تتبيّن من مولانا الراحل الزّاهد؛ إن كان يرغب فى أنواع محدّدة للأكل أو الشرب أو الفاكهة أو الحلوى.. أو نوع ومكان الإقامة واحتياجات الضيافة.. فيرفض التمييز.. وهو أهلٌ لأكثر مما يجب عليك أن توفّره له من جود وكرم..
وبابتسامة الملائكة يهمسُ (بل أنزل معكم.. وكما يسرى عليكم يسرى علىّ..)
وإن جلس على مائدة؛ كان يتناول لقيماته بتمهّل شديد.. حتى يصبح أوّل الفارغين من الطعام دون أن يشعر أحداً.. وآخر المغادرين للمائدة أدباً..
ولا يتجاوز بصره حدود ماهو أمامه من طعام.. وكل ماكان يشغل فكره ويعنيه؛ هو التحضير للدرس العلمى.. والاستفسار عن الموضوعات.. والمدّة الزمنية المتاحة لتوصيل مايمُنّ الله عليه من فضل علم على الناس.. ومايسأل أبداً عن قيمة مكافأة سواء كانت معنويّة أو ماديّة.. ولا يعرف على مابداخل أى ظرف يُعطى له..
وكان يرحمه الله يأبى حتى تلحّ وتضغط عليه.. وتضع مكافأة التقديرعِنْوَة فى جيب العباءة..
ربع قرن برفقته؛ لم يتغير سلوكه.. حتى وهو فى بلاء وشدّة وحاجة مرضيّة وعائلية من الله عزّ وجلّ، يصطفى بها خياره وأحبابه؛ يشدّ على يديك يقول:
ـ والله لا يهُمّ.. صدّقنى لا يهُمّ!
،،،،،
وكنّا نتسابق على مقابلته.. ومَنْ يعرف قيمته يتهافت على تحميله الدّعوات الخاصة.. ومن يقدر الرجل؛ يتمنّى لو ترك له ظهر كفّه ليقبله إجلالاً وتوقيراً وتبجيلاً..
وتَمُرّ الأعوام.. ويدخل العالم المُكَابد عامه الثمانين.. ويضرب أروع الأمثلة فى جهاد الكلمة.. ومواصلة الدّعوة.. ويرفع الله قدره بحب الجميع صغيرهم قبل كبيرهم.. ويصل برقىّ ورقة وألفة لأفئدة الجميع..
وعند مواجهة إحدى مسائل الفقه؛ لا يتورع أن يردّ:
ـ دعنى أبحث فى هذا الأمر، وسأرسل إليكم الردّ..؟
لا حياء فى العلم.. ولا يتحدث إلا بما هو على يقين بأمره.. وإن شكّ يتمهلّ ويصمت.. ولا يتردد أن يعلن احتراماً للعلم.. وعِصْمَة من الشُّبهات.. وخَشْية العالم من خالق الأرض والسّموات..
،،،،
ويروى أحد طلاب الشيخ يرحمه الله فيقول:
ـ بعد الانتهاء من الدّرس التابع للرواق الأزهرى؛ حيث يلقى فيه طلابه؛ خرجت مع مولانا حتى أوصّله.. ويتأخر عنه حفيده.. فيضطر العلامة الكبير أنْ يجلس على الرصيف؛ فى منتصف الطريق لينتظره.. وأحاول منعه فيقول لى (أنا فلاح.. ومعتاد على مثل هذه الجلسات)..
ولم يكد يجلس؛ حتى يزدحم الطريق بالسيارات.. كُلّ من فيها ينزل.. ويحاولُ أن يستضيفُ بها فضيلة الشيخ.. وينزلُ اثنان من الشباب مسرعين ويهرولان ناحية الشيخ.. ويتركان السيارتين فى منتصف الطريق.. مفتوحتين ليركب بأحدهما الشيخ.. ويحاولان تقبيل يده الكريمة.. ولكن كعادته وبتواضعه المخجل يأبى.. ونبدأ التوسّل إليه ليركب ويرفض بشدة..
ويجلس شاب منهما على ركبتيه ليكلّمه..
وفجأة ينتفضُ الشيخ؛ ويقفُ على ركبتيه وهى تؤلمانه.. ويتحامل على وجعه، وقد تجاوز الثمانين.. ويستمرّ الحديث أكثر مِن ثلث ساعة.. ولم يغادر أحدنا حتى أتى حفيده..
،،،،،
إنه الدكتور سعد جاويش مولانا وشيخنا الراحل..من جعل من العلم دابته.. يسيرُ بها فى دروب الحياة؛ قرين صالح عمل؛ وتوأمة جميل أخلاق؛ ويقظة ضمير؛ ودوام صدقة؛ وجهاد تسبيح ومذاكرة ومروءة.. حتى يلقى ربه..وبإذنه تعالى نحسبه من ملائكة أهل العلم.. من فئة هذا العالم الزاهد الناسك الصالح.. الذى أراد خدمة الملك..
فقال له الملك:
ـ إذهب وتعلم حتى تصلح لخدمتي..؟
فلما شرع في التعلم وذاق لذة العلم.. بعث الملك إليه وقال له:
ـ اترك التعلم فقد صرت أهلاً لخدمتي..؟
فقال له الرجل:
ـ كنت أهلاً لخدمتك؛ حين لم ترني أهلاً لخدمتك..
وحين رأيتني أهلاً لخدمتك؛ رأيت نفسي أهلاً لخدمة الله تعالى..
وذلك أني كنت أظن أن الباب بابك لجهلي.. والآن علمت أن الباب باب الربّ!
رحم الله مولانا ورفعه فى أعلى الجَنْان.. من اختار باب الله منذ أن خلقه..
ورحمنا وردّنا بعيداً عن عتبات ديار الدّنيا وخُدّامها..يارب .