الكاتب : وجيه وهبه |
11:39 pm 02/09/2019
| رأي
| 2679
«العقَّاد لا يَعدو أن يكونَ مترجمًا ناقلًا، وأحسنُ ما يكتبُه هو أحسنُ ما يَسرقُه؛ كأن اللغةَ الإنكليزيةَ عنده ليست لغةً، ولكنها مفاتيحُ كتب، وآلاتُ سرقة».
هذا هو رأى «مصطفى صادق الرافعى» فى «العقاد»، والذى تضمنته، مجموعة مقالات نشرها فى العام ١٩٢٩، وصدرت بعد ذلك فى كتاب فى نقد «العقاد» كاتبًا وشاعرًا وإنسانًا، بعنوان «على السفود». والسفود هو «سيخ» الحديد الذى يشوى عليه اللحم. ويتوالى تقريع «الرافعى» للعقاد، بضراوة، ويستنكر معارضته الشعرية لابن الرومى ويقول: «لو بصق ابن الرومى لغرق العقاد فى بصقته».
وينعت العقاد بقوله: «هذا الجلف الأسوانى»…صاحب «ألأَم لغة وأخس طبيعة»…«حيطان الشوارع نفسها تكاد تشتمه». أما عن اعتزاز حزب الوفد بالعقاد، فيقول «الرافعى»: «كان الوفد يحتاج إلى سفيه أحمق يسافه عنه جريًا على القاعدة الحكيمة القائلة: إن الكريم لا يحسن به أن يكون سفيهًا فيجب أن يتخذ له من يسافه عنه إذا شتم، فلم يروا أكفأ من العقاد وقاحة وجه وبذاءة لسان وموت ضمير وحمقًا أكبر من الحمق الإنسانى…». ويواصل «الرافعى» هجاءه للعقاد: هو «حمار يلبس جلد أسد»…«أجهل الناس باللغة وعلومها».. «يرفع المنصوب الذى لا يجوز رفعه» (ويذكر أمثلة للتدليل على ذلك)… «شاعر ركيك.. يسرق المعانى من غيره من الشعراء».. «ليس بجبار الذهن ولكنه جبار الغرور»… «عضلاته بارزة مكتنزة ولكنها عضلات من شراميط».. «مغفل ومن يقول عنه إنه شاعر هو مغفل أيضًا. (يُلاحظ أن الرافعى نفسه، فى موضع آخر، استنكر أن يستخدم العقاد لفظة «مغفل» فى نقده لخليل ثابت، ووصفه لهيكل باشا بـ «الولد السكران». والعقاد أيضًا استخدم أعنف الألفاظ فى معاركه الأدبية والسياسية).
تميز النصف الأول من القرن العشرين بزخم من معارك ديناصورات فكرية وسياسية وأدبية، من أمثال طه حسين.. العقاد.. على عبد الرازق.. مصطفى صادق الرافعى.. زكى مبارك.. وغيرهم، فى كافة المجالات. معارك، قد تبدو لنا اليوم «لا ناقة لنا فيها ولا جمل». إلا أنها معارك أفاد من طرفيها معاصروها، كما أنها مازالت تحمل لنا فى طياتها الكثير، وتعكس لنا صورة لنُخب تلك الفترة بكل مآثرهم ومثالبهم. والقارئ ـ على سبيل المثال ـ لسفود «صادق الرافعى»، على الرغم مما به من قسوة وفظاظة، لن يُعدم من فوائد عديدة، فالرافعى ـ مثله مثل العقادـ هو أحد عمالقة الأدب العربى المعدودين. وإن كنا نعده أيضًا واحدًا من أشرس المحافظين الرجعيين، أعداء الحداثة. ولكن «هذه نقرة وتلك نقرة أخرى»، و«ما لا يدرك كله لا يترك جله». وكما لنا أن نمتدح أعمال الرافعى مرة، فلنا أيضًا أن نستنكرها مرة ومرات، وذلك وفقًا لسياقها.
الرافعى والعقاد كلاهما أحب سعد زغلول، كما أحبهما سعد وامتدحهما (ادعى العقاد أن امتداح سعد للرافعى منحول). كلاهما أعجب بالأديبة «مى» وانتسب لصالونها الأدبى. وكلاهما لم يكمل تعليمه الدراسى ولم يحصل على شهادة جامعية. وكلاهما كان شاعرًا، وكلاهما كان مُر اللسان فظًا.. أحيانًا.
وبعيدًا عن سفود الرافعى، نختتم ببعض فقرات ـ ربما تتناقض مع سفوده ـ من مقال له، قبل وفاته (عام ١٩٣٧) بعدة أشهر:
«ومن آفاتنا نحن الشرقيين أننا نستمرئُ العداوة وننقاد لأسبابها ونتطاوع لها تطاوع الصغار بأنفسهم لما فى أنفسهم، كأن المستبدين الذين كانوا فى تاريخنا قد انتقلوا إلى طبائعنا؛ فردُّ الفكر على الفكر فى مناقشة تجرى بيننا - لا يكون من دفع الحقيقة للحقيقة، ولكن من رد الاستبداد على الاستبداد ومن توثُّب الطغيان على الطغيان؛ فهو الثَّلبُ والطعنُ والتجريح، وهو الجفوة والخصومةُ واللَّدَد، وهو المنازعة والعنف والتحامل؛ وهو بهذه وتلك شرّ وفسادٌ وسقوط. والجدال بين العقلاء يبعث الفكر فينتهى إلى الحق، ولكنه فينا نحن يهيج الخلق فينتهى إلى الشر، والردُّ على عظيم منا كأنه يردُّ على منزلته فى الناس لا على منزلته فى الرأى، وكشف الخطأ عندنا تعبيرٌ بالخطأ لا تبصير بالصواب، واستلاب الحجة من صاحبها وإفسادها عليه كاستلاب المِلك من مالكه وطرده منه. ومن ثمَّ كان الدفاع بالمكابرة أصلًا من أصول الطبيعة فينا، وكان الاضطهاد حجةً للحجة العاجزة، وكان الإعنات دليلًا للدليل الذى لا ينهض بنفسه، ومتى اعتبر كلُّ إنسانٍ نفسه إمبراطورًا على الحق... فلا جرَمَ لا تردُّ كلمةٌ على كلمة إلا بحرب».
«لستم أحرارًا فى أن تجعلوا غيركم غير حر، فإن يكن الرأى الذى يعارضكم رأيًا حقًا وتركتم منابذتَه فقد نصرتم الحق؛ وإن يكن باطلًا فإظهاره باطلًا هو برهان الحق الذى أنتم عليه؛ ولن تجرّدوا أحدًا من اختيار الرأى إلا إذا تجردتم أنتم من اختيار العدل، فإن فعلتم فهذه كبرياء ظالمة، تدَّعى أنها الحق ثم تدَّعى لنفسها حكمه، فقد كذبتْ مرتين».
«قامت بين اثنين من فلاسفة الرأى مناظرة فى صحيفة من الصحف وتساجَلا فى مقالات عدّة، فلما عجز أضعفُهما حجةً الجدال، كتب مقالته الأخيرة فجاءت سقيمة، فلم ترضِه فبيَّتها ونام عنها على أن يرسلها من الغداة بعد أن يردد نظره فيها ويصحح آراءه بالحجج التى يفتح بها عليه. قالوا: فلما نام تمثَّلت له المقالةُ فى أحلامه جسما حيًا موهونًا مترضضًا، مخلوعًا من هنا مكسورًا من هناك، مجروحًا مما بينهما؛ ثم كلمته فقالت له: ويحك أيها الأبله. إن أردت أن تغلب صاحبك وتُسكتَه عنك فاحمل مقالتك إلى رأسه فى العصا لا فى الجريدة».