الكاتب : عثمان علام |
09:09 pm 10/07/2015
| 2005
منذ ست وعشرون عاماً، تابعت متأثراً مشاهد مسلسل ذئاب الجبل، شدني العلاقة العفيفة التي بدأت بالعاطفة بين الصعيدي "احمد عبدالعزيز" الذي جاء من اقصى الصعيد للإسكندرية، مع الفتاة المدللة وحيدة والدها "ميرنا وليد"، عشت حالة عشق الصعيدي مع الفتاة الإسكندرية، وتمنيت أن لو قذفت بي الظروف لمثل هذا المشهد، لاجد مثل تلك الفتاة، واظهر بطولات جنوبية أمامها حتى لو كلفني ذلك حياتي وانا ادافع عن والدها أمام اي معتدي، لارسم بذلك شبح الرجولة المفرطة التي تُعجب بها فتيات المدينة .
ايقظت تلك المشاهد الدرامية حكاوي أبناء القرية، التي كانوا يسردونها لنا ونحن صغار عن بنات بحري وحلاوتهم ودلعهم، بينما لم نكن نرى سوى بنات الصعيد الواحدة منهن ترتدي الكالسون تحت الجلابية البلدي، بل وتوشك أن تحفر في وجهها علامات بالسكين حتى لا يراها أحد او حتى يستحسنها .
حملت كل ذلك في ذاكرتي، ومع أول جنيهات احوشها ركبت قطار الإسكندرية ب275" قرش، لارى مثل هذه الفتاة"ميرنا وليد"، فادمر اسطواناتها التي تقتنيها ل"عبدالوهاب وام كلثوم وعبده الحامولي"، غير اني لم اجد تلك الفتاة، بل وجدت الزحام والضجيج ووجوه قاسية الملامح، وظهور قصمها التعب والشقاء، ووجدت ايضاً فتيات يركبن السيارات الفاخرة وبجوارهن شباب ربما اجمل من اجمل جميلات الصعيد، واصابتني الخيبة القوية، فكيف لي ان انسج دراما واقعية كالتي عاشها احمد عبدالعزيز مع ميرنا وليد!!!واين هو الواقع الذي يحكي عنه شباب القرية في سفرهم للإسكندرية، وكيف لهم وهم لا يملكون شيئ أن يتسعكون مع بناس من هذا الجنس؟؟، كله سراب وحكاوي لا تخلو من نسج خيال الكاتب ومن خيال المسافرون للإسكندرية يعملون في النظافة والبناء والتشييد.
لكني احتفظت بذلك كله في الذاكرة، وطمحت في تحقيقه يوم أن تركت قريتي مسافراً للقاهرة لاستكمل رحلتي الدراسية، لكن هيهات أن يتحقق ذلك والظروف والملابسات ليست كالظروف الدرامية او حكاوي أبناء الحي.
حفرت كل هذه الأحداث بداخلي وجدان وعاطفة، جعلتني اسمع عبدالحليم ونجاة وميادة و وردة ، وغيرهم من مطربين العشق، ولم اكن اصل لمرحلة النضج حتى استمع لكوكب الشرق او عبدالوهاب...ومع مرور الأيام حاولت أن تكون لي تجربة خاصة، ربما لا تشبه تجربة ابطال ذئاب الجبل، لتباعد النسج الدرامي مع واقعي أنا شخصياً، وباعدت الحياة بيني وبين كل ما كنت اشاهده وما اراه وما سمعته، وقررت ان يكون لي حبكة خاصة لا تماثل ولا تشابه الدراما ولا الواقع الكاذب الذي عشت فيه لسنوات مع شباب راحوا يعوضون نقصهم بحكايات واهية هم أبعد ما يكونوا عنها .
لكن وما ان تفكر في صنع شيئ ترضاه إلا وتجد نفسك في منتصف العمر، وهذا يجبرك على قبول أشياء ما كان لك أن تقبلها لو كنت في مقتبله، او حتى في نهايته، الأقدار تلفظك من كل إتجاه، كثيرون لن يكونوا راضين عنك، حتى محيطك الذي تعيش فيه قد يمرق منك، يهرب كالماء الذي تسرب منك حتى بعد ان احكمت قبضتك عليه... مشكلة أن تتبخر منك الأيام دون أن تدرك شيئ، وحتى ما ادركته وجدته في النهاية سراب أفنيت فيه عمراً طويلاً، ضحيت من أجله بأثمن ما تملك، ودفعت فيه ما لو كنت دفعته في شيئ قبله لنلت ما تشتهي .
إنها ليست ازمة منتصف العمر فقط، بل أزمة المجتمع الوسطي الذي يعتريك ويستعبدك ويمنعك من العيش في مجتمع أعلى، ويصعب عليك أيضاً العيش في مجتمع أقل، هذا وذاك يمقتونك، كتلك الفتاة التي كنت تحلم بها، لكن ظروفك الوسطية حالت دون الفوز بها، وعندما اشتعل شيب منتصف العمر، وجمعت حفنة من المال، ووجدت حتى من تشبهها راحت تزهد فيك ، فلم يعد بمقدورك أن تجاري طموحاتها ولا احلامها ولا تستطيع الركض خلفها، ولا حتى سماع تلك الأغاني التي تهتم بها.
وربما تشبه حياة الكثيرين منا حكاية الدكتور احمد خالد توفيق التي حكاها عن مشكلة وسط العمر فيقول: ذات مرة اضطرتني الظروف واضطرني النحس إلى المشي في حي عشوائي مرعب على أطراف المدينة، فلاحظت أن سكان الحي الفقراء ينظرون لي نظرة شرسة متوعدة .. النساء ترمقنني في شك وكراهية، والأطفال يركضون خلفي لكن على مسافة معقولة لأنهم خائفون مني، والفضول يمنعهم من الابتعاد، هنا فطنت إلى أنني أبدو أنيقًا متغطرسًا أكثر من اللازم .. أكثر مما يستريحون له، ولا أعرف كيف نجوت من هذه المغامرة على كل حال.
بعد أسبوع كان علي أن أقابل رجلاً في أحد الأحياء شديدة الرقي والثراء.. سيارات فاخرة من أحدث موديل، بحيث بدت سيارتي جوارها أقرب إلى صندوق قمامة ألقاه أحدهم هناك، لاحظت نظرات الدهشة والعدائية التي يصوبها لي كل من ألقاه هناك، وعندما أردت دخول تلك البناية استوقفني حارس الأمن ليعرف من أنا بالتفصيل، نظرت لنفسي في المرآة العملاقة خلف الحارس فعرفت السبب .. أنا أبدو رث الثياب مريبًا وفقيرًا أكثر من اللازم وسط هؤلاء.
هكذا عرفت أنني أنتمي لمعسكر الوسط في كل شيء.. ليس لي مكان في مجتمع الأثرياء لكن مجتمع المعدمين لا يقبلني أيضاً ..
لو تهددك واحد وأنت في معسكر الأثرياء فلا مشكلة لأن البودي جارد الخاص بك من الرجال صلع الرؤوس ذوي السترات السوداء سوف يحيطون بك لحمايتك، ولو تهددك واحد وأنت في معسكر الفقراء فلسوف يحيط بك أفراد عصابتك المدججون بالعصي الثقيلة والجنازير وزجاجات الحمض.. أما عندما تكون في الوسط فأنت تُضرب في جميع الحالات ..
وفي أيام الكلية كنت أحب (هيام) زميلتي، وكانت تعجب بحيويتي وشبابي لكنها لا تعجب بفقري وإفلاسي، وترى أنه من الشجاعة الخارقة التي تدنو من الوقاحة أن أتقدم طالبًا يدها من أهلها، أبي قال لي إن هذا مستحيل .. وهكذا قررت أن ألعب دور الفتى الذي تحطم قلبه، وسهرت أيامًا أكتب الشعر الرديء وأشرب أكوابًا من الشاي الثقيل الأسود .. تؤلمني معدتي من الشاي فأحسب هذه آلام الجوى وقروح الفؤاد التي يتكلمون عنها.
قضيت عمري أحاول جمع المال .. ثم صار لديّ ما يسمح بأن أطلب يد (هيام).. وعندما بحثت عنها وجدتها قد صارت امرأة بدينة مرعبة ولديها خمسة أطفال لا تكف عن صفعهم .. هنا وجدت فتاة تشبه (هيام) الشاب