الكاتب : عثمان علام |
05:21 am 17/10/2023
| 2135
من الذاكرة :-
ذاكرتي لا تتسع لأكثر من 40 سنة مضت ، قبل ذلك لا أتذكر شيئ ، ليس لدي حتى صور تذكرني بالتاريخ الذي سبق الأربعون ، حتى ما كُنت أدونه في كشكولي وأنا غض لم يعد موجوداً ، حتى ما أتذكره الآن وأود أن أحكيه كنت أكرهه وامقته ، لقد كان مرتبط بذكريات ربما لا تروق لأي طفل يعيش على هذا الكوكب .
لكنِ مع مرور الوقت وتقدمي فى العمر أُريد أن أحكي ، أُريد أن أبكي ، أريد أن أتذكر ، أريد أن أعود ، وددت لو عاد بي الزمن ممتطياً البراق ، لأُشاهد وجوهاً كنت أراها ، وأرى أشخاص كنت أود أن لا أفارقهم على الدوام ، وأولهم وجه أمي ، كنت أود لو كانت على قيد الحياة فأحضنها وأسكن إليها حتى أتخلص من همومي وأخطائي وموبيقاتي .
مع كل معاناة في حياتي أكتشف أن الأم هي كل شيئ ، بل هي الحياة لأي إنسان ، تولد فلا تراها لكنك تشتم رائحتها ، تعبث أطرافك الصغيرة بجسدها ، تستشعر ملمس جلدها دون غيرها ، تشتم رائحتها فتكون بوصلتلك للحياة ، بعد أشهر معدودة تفتح عينيك على أمك ، هي الظل والكيان والحقيقة التي تلازمك طيلة الوقت ، صغيراً كنت أو كبيراً ، وحتى بعد أن ماتت أمي ، ظلت ملازمةً لي وستظل ما حييت .
كُنت أود أن أحكي شيء مختلف عن أمي ، كنت أود لو شكيت وبكيت بين ذراعيها ، لكن لازلت أتذكر أمي وهي تُمسك بي كي تنظفني وتهندمني ، مشهد لا يُنسى .
كان يوم الجمعة "وهو يوم الإجازة الأسبوعية من المدرسة"، يوماً قاسٍ ، على الأقل لطفلي مثلي لم يكن يملك من الرفاهية ما يجعله يفرح بهذا اليوم ، فلا ذهاب للتنزه ولا شيئ في هذا الجو يدفعك للفرح ، كانت المتعة الوحيدة فى الذهاب للمدرسة واللعب من الزملاء وملاقاتهم ، الأقران مهما كانوا سيئين أحياناً لا يكون لك ملاذ غيرهم .
كانت أمي تمسك بي حتى تحولني لطفل براق ، أنا الإبن الوحيد في هذا الوقت ، ربما كنت "الحيلة" لها ولجدتي رحمهما الله ، الولد الذي سيحرر القدس ، سيبني حائط عكا الذي هدمه الصليبيون ، سيعيد ملك فارس وعرش كسرى ، كنت بالنسبة لهم كل شيئ ، بنتان و ولد ، والولد فى الصعيد هو أغلى ما يملكه البشر ، هكذا كانوا وربما لايزالون ، عادات وتقاليد لم تتغير ، ولو تغير شيئ ما رأينا قضايا الثأر تتوارثها الأجيال ، جيلاً تلو جيل .
المهم أنني كنت أهرب ، كانت تمسك بي أمي ، ما أن أرى الماء المغلي إلا ويتعالى صراخي ، لا أريد الاستحمام ، كنت أكرهه ، لست كأولادي الآن هم يستحمون مرة أو مرتين فى اليوم ، يبدو أن أجسادهم ستصبح نحيفة يوماً ما من كثرة الأستحمام .
ورحم الله جدتي "معزوزه"، كانت تقف لهم جميعاً بالمرصاد ، تحتضنني وتمسك بي ، كانت هي الملاذ من كل قسوة ، الملجأ من كل العذابات ، لكنها كانت ترضى بأن تضربني أمي حتى استحم ، ما عدا ذلك كانت جدتي هي ملك الغابة الذي يستأسد على أي أحد ينالني ولو بكلمة .
مع مرور الأيام أعتدت ذلك من أمي ، ارتضيت أن تصطحبني وتحميني ، حتى بعد أن كبرت ، وصل عمري ل 16 سنة ، كانت أمي هي التي "تحميني"، وحتى بعد ذلك ، وبعد أن بات الخجل يعتريني ، كانت أمي هي من يليف ظهري ، وتمتد يدها فتنظف كل جسدي بالليفة المخلوعة من النخل ، ليفة النخل كانت هي الوسيلة لتنظيف الجسد ، كنا نختار أنعمها ومع كثرة الأستحمام كانت تنعم أكثر وأكثر .
سرعان ما ابتعدت عن أمي ، بعد 18 سنة أنتقلت للعيش فى القاهرة ، بدأت اعتمد على نفسي ، فمن مثل أمي "يدعك" جسدي وينظفه ، لا أحد ، كل الحجب تنكشف مع الأم ، هي تقلب في جسدك تتفقده ، من الممكن أن ترى كدمة لم تراها ، ترى تغيراً فى ظهرك أو بطنك ، فتعالجك وتعتني بك ، غيرها كل الستائر تسدل ، لا ترتضي أن يرى جسدك أحد حتى لو كان ولدك أو بنتك ، عظمة الأم وتفانيها لا يضاهيه شيئ ، لا أحد يحبك مثل أمك ، لا أحد يعتني بك مثل أمك ، لا أحد يتحمل كل معاناتك وسخافاتك بسعادة ورضا سوى أمك ، طيلة الوقت تتحمل همومك .
قبل وفاة أمي بساعات ، كانت لاتزال تنطق ، دخلت عليها وبجوارها شقيقاتي البنات ، وفي ظل معاناتها وألمها وساعاتها المعدودة قالت لهن: هل أعددتم الفطار لأخوكم !يا الله ما لكِ يا أمي ومال الجوعى ، حتى وأنتِ تفارقين تعتني بي !
كنت أود أن أحكي عن طفولتي مجرداً ، أجعل نفسي البطل الحقيقي لنفسي ولقصتي ولحياتي ولمعاناتي وأفراحي وصولاتي وجولاتي ، لكن وجدت أمي هي البطل في كل شيئ ، الحديث لا يحلو بدونها ، الرواية لا تكتمل إلا ببطولتها ، لا شىء ممكن أن تحكيه إلا بذكرها ، إذا تحدثت عن هفواتك فستجد أمك هي البطل الذي يغفر ، وإذا تحدثت عن نجاحاتك فستجد أمك هي البطل الذي قادك لذلك ، وإذا تحدثت عن آلامك تجد أمك هي من كانت وحدها التي تتألم ، وإذا تحدثت عن أفراحك تجد أمك هي أول المبتسمين لفرحك ، وإذا تحدثت عن سقطاتك تجد أمك هي أول من يسامح ، لا أحد بعدها يسامح ويغفر ويتجاوز .
لو سألتموتي عن الفقد ، فسأقول لكم أمي ، وإذا سألتموني عن الفراق فسأقول لكم أمي ، وإذا سألتموني عن الشىء المبهج في حياتي فسأقول لكم أمي ، وإذا سألتموني عن الحاجة التي أريدها فسأقول لكم أمي ، وإذا سألتموني عن شىء قصرت فيه وأندم عليه فسأقول لكم أمي ، وإذا سألتموني عن حلمك الذي وددت لو تحقق فسأقول لكم أن أدفن بجوار أمي .
ورغم حب أبنائي لي وشغفهم بي ، فلست بالأب المتسلط القاسي ، لكن حبهم لأمهم أشد ، أمهم هي الكلمة الأولى التي يتفوهون بها عندما يستيقظون من النوم وعندما ينامون وعند عودتهم من الخارج وعند خروجهم ، وعند نجاحهم ، وعند فرحهم وعند مرضهم ، وعند معاناتهم ، هي بالنسبة لهم كل شىء ، حتى فى الخناقات ، يشكلون خط دفاع عن أمهم ، ربما هذا ما أعاد ذاكرتي للخلف وجعلني أتذكر أياماً عشتها في حضني أمي وكنف أمي وبصوت أمي وإلى جانب أمي ، وبعيداً عن أمي .
أنا لم أعد القي باللوم كالسابق على كبار السن الذين تخطت أعمارهم السبعون أو الثمانين وهم يتذكرون أمهاتهم وهم يحنون إليهم وهم يعودون بذاكرتهم كما لو كانوا صغاراً في عمر الطفولة ، لم أعد ألوم الصغار ولا العجائز وهم ينظرون إلى صور أمهاتم أحياءً وأمواتا ، لم أعد ألوم أحد عندما يصرخ بأعلى صوته متذكراً موقف ما "الله يرحمك يا أمي"، كل هؤلاء ثقلى ، فالبعد عن الأم ولو ليوم واحد يجعلك تتذكرها ، المواقف بكل أنواعها تجعلك تستدعي أمك ، إن لم تكن بحاجة لها جسداً وروحاً فأنت بحاجة إلى دعائها وابتهالها لله من أجلك .
لقد كان ولا يزال يوم موت أمي أشد قسوةً على نفسي من كل شيئ ، كل المواقف كل الصعاب كل المذلات كل النكبات ، جميعها لم تعادل لحظة حمل أمي إلى مرقدها … رحمك الله يا أمي وغسل الله جسدك ويدك بالثلج والبرد كما كنتِ تغسلين جسدي بالماء والحنية وأنا صغير .
#حكاوي_علام #عثمان_علام