الكاتب : عثمان علام |
07:07 am 30/10/2021
| 3472
إذا أردت أن تعرف معنى الأم ، فلا تسأل الشعراء ولا الكُتاب ولا المُحدثين ولا المتكلمين ، أسأل الثكلى والحزاني والمكلومين الذين فقدوا الأم ، فما سطر كاتب كلمة عن الأم واعجبتك إلا لأنه ذاق مرارة الفراق ، ولا تفوه شاعر بكلمة عن الأم إلا لأنه تجرع الهجران ، ولا أتقن ممثل دوراً عن الأم إلا لأنه عاش ألم الرحيل .
منذ عامين ونصف ، فقدت أبي وكان فقداً عزيزاً غالياً مؤلماً ، فقد نهضت وأنا جالساً اتلقى نبأ الرحيل فوجدت ظهري لا يقوى على أن ينتصب ، وطيلة هذه الفترة اتلمس ملامح وكلامات ورائحة أبي في كل مكان ، كُنت أظن أنه لن يبلغ بي الحزن مبلغه بعد ذلك ، لكنه كان حزناً على شخص أبي ، ليس على ركناً كان يجلس فيه ولا جماعة كان يصطحبهم ، ولا منديلاً كان يجفف به عرقه .
وعندما ماتت أمي وجدت الحزن يسكن كل الأركان ، ها هي الأشياء لم يعد لها قيمة بعد أمي ، فقد لملمت حاجاتها وأشيائها ورحلت ، تركت بضع قصاصات من رائحتها ، لكنها أخذت معها الإحساس بهذه الرائحة والقصاصات .
تعودت منذ رحيل أبي أن لا أتركها وحيدةً قدر المستطاع ، كنت أهاتفها يومياً أو ربما كل يومين ، لو تأخرت كانت توبخني توبيخ المُحب لحبيبه والرفيق لرفيقه ، "لماذا غبت عني كل هذه الفترة"؟ ، كان اليوم الزائد عن المعتاد بالنسبة لها وقت طويل ، ربما كانت تعتبرني السند ، لكني أعتبرها الحياة .
كُنت انفذ معنى البر قدر استطاعتي ، قد لا أكون مدركاً معنى الحب الذي في قلبها ولا لمعة النور في عينها عندما تراني ، وأني لي أن ادرك ذلك ، فأنا كغيري من الأشخاص الذين لا يدركون قيمة الأشياء إلا بعد فقدها ، وأمي لم تكن مجرد أشياء ، فقد كانت كل الأشياء والحاجات ، كل الأمل والحياة ، كل الرضا والحب ، كل الحركات والسكنات .
منذ كنت صغيراً ، كانت أمي تعتبرني شيئاً نفيساً تقتنيه ، كم من قطع اللحم كانت تلقمني أياها صغيراً ، تناديني فأذهب إليها أجدها تخبئ قطعة أو قطعتين بعيداً عن الأعين وتضعهم في فمي .
أعترف أنني كنت قاسياً بعض الشيئ وأنا في سن الخامسة عشر أو أقل ، كنت أزعل ولكني لا أغضب منها ، اختار لنفسي ركن ، وألفح نفسي بالغطاء ، أجدها تأتي اليَّ تصالحني ، كم من المرات فعلتي هذا يا أمي !.
كان حنوها عليَّ ليس حنواً عادياً ، فقد عاشرت الكثير من الأصدقاء ، لم تكن معاملة أمهاتهم لهم كمعاملة أمي لي ، كنت أظن في هذه الفترة أن السبب في ذلك أنني الولد الوحيد ، لكن بعدما كبرت زاد شغفها وحبها وحنوها أكثر وأكثر .
كيف أنسى أنها كانت تدفع لي مالها لاشتري حاجاتي عندما دخلت الجامعة ، كنت بين الأصدقاء مستوراً بفضل سخائها وكرمها معي ، لم تدخر جهداً لتسعدني به .
عندما كبرت ، ظننت أن هناك دين لابد من رده لأمي ، تباً لي ، كيف أظن ذلك ، وهل كانت تنتظر مني شيئ ؟، كل ما فعلته كان حباً خالصاً مجرداً من أي غرض ، وهكذا الأمهات ، يدفعن بما لديهن من مال وحب وحنو وعشق دون طلب الرد ، غير أن طبيعة الحياة هكذا .
الإنسان لا يستشعر هذه الأشياء ، إلا بعد أن يصبح أباً ، فأنا أفعل مع أولادي مثلما كان يفعل أبي ، مع اختلاف الزمن والامكانيات ، زوجتي تفعل مع أبنائي مثلما كانت تفعل أمي معي ، أه لو يدرك الجميع كم هي غالية الأمومة !.
تخيل أنك تهاتف وتزور وتصافح والدتك ، من باب الواجب الذي لا مفر منه ، بينما هي تفعل نفس الأشياء بطريقة أخرى ، طريقة ليست كطريقتك ، حباً ليس كحبك ، عطاءً ليس كعطاءك .
عندما كنت أسافر لأسيوط للاطمئنان عليها ، كانت تهاتفني طوال الطريق "400" كيلو متر لا ينقطع حديثها "أنت فين دلوقتي وصلت فين خلي بالك على مهلك وأنت سايق"، وكأني طفل صغير ، أنا هكذا كنت في نظرها ، هي لا تعرف أنني كبرت ، أنا بالنسبة لها لازلت ذلك الطفل الذي كانت تحمله على كتفها وتطعمه وتسقيه وترضعه ، الزمن عندها لا يتحرك بالنسبة لي .
ودعتها يوم الأربعاء ، ومن فضل الله وكرمه أنني ذهبت إليها قبل رحيلها ب4 أيام ، ظللت بجوارها ، لم أكن اتخيل أنها راحلة ، كنت أظن أن يومين أو ثلاثة وستنهض واصطحبها معي للقاهرة ، لم أدرك أن امتنعاها عن الطعام كان بمثابة توديعها للحياة ، اللحظات الأخيرة في حياتها ، قولت لها سأشتري لكِ غرفة نوم جديدة ، هذه قد عفا عليها الزمن ، مضى عليها أكثر من أربعون سنة ، نظرت اليَّ "لكني سأموت".
رأيت روحها الطاهرة وهي تصعد للسماء ، سرعان ما سكتت وخلدت للنوم بلا رجعة ، توقفت عن الأنين وصراخ الألم ، فارقت ، كيف لكِ يا أمي أن ترحلي !، أنا لا زلت أظن أنها خلدت للنوم لساعات ، سرعان ما تستيقظ وأسمع انينها ، أناولها جرعات العلاج التي جاءت للتو ، لم تأخذ منها جرعة واحدة ، كان الموت أسرع .
أركان البيت بعد توقف قلبها عن النبض باتت غريبة ، كيف لي أن أتجول فيه بعدك يا أمي ، ومن الذي سيحضر لي الطعام وينظف لي هدومي لو ذهبت إلى هناك ؟، من لي بعدك وقد أغلقت كل الأبواب ، ومن سيظل معي أنيساً وصاحباً في رحلتي لأسيوط ؟، وماذا عن أشياءك الموزعة فى الأركان ؟نظارتك وساعتك وجلبابك وحذائك ومناديلك ، ماذا عن الصبية الصغار الذين كانوا يغمضون أعينهم على أمل أن تطعميهم فى الصباح ، وماذا عن هاتفك الذي توقف عن الرنين ؟
ها قد تركتي حاجاتك ورحلتي وتركتيني بدون أم ، وماذا عن هدية عيد الأم ، لمن سأهديها بعدك ؟، يا أمي لقد كنتي الحنان والراحة والهناء والأمل ، كنتي كل جميل في حياتي ، بل كنتي الحياة وها قد رحلتي ، رحلتي يا أمي وأخذتي معك كلّ شيء وأصبحت أحيا بانتظار أن أقابلك ، فلا يسأني أحد عن أخباري ولا عن أحوالي ، فلم أعد أنا ذلك الطفل الذي يسأل أمه "أحقاً إذا مر الزمان سنكبرُ ، فقد كبرت وبت يتيماً منذ أربعة أيام .
رفعت احمد عبد الخالق
البقاء لله ربنا يصبرك يارب ويرحمها ويلحقها وايانا بالصالحين.
محمد ابو العطا
الف رحمه ونور عليها اللهم اغفر لها وارحمها واسكنها فسيح جناتك مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا