للاعلان

Sat,23 Nov 2024

عثمان علام

كلمتين ونص…راهبات في محراب الحياة

كلمتين ونص…راهبات في محراب الحياة

الكاتب : عثمان علام |

09:18 pm 25/10/2021

| رئيس التحرير

| 3283


أقرأ أيضا: Test


حديث الريف كما هو ، منذ أن تركته قبل سبع وعشرون عاماً ، ولسان الحال كما هو ، تغيرت الوجوه ، لكن الألسنة واحدة ، وكأن الأجيال تسلم بعضها الأنين والهموم والشكوى ، ليس هناك بيت خالي ، حتى البيوت الفارغة لم تتركها الألسنة ، الحجر والبشر طالتهم الألسنة على السواء .

كنت قد عزمت على أن أكتب قصة تلك المرأة الصابرة المحتسبة المجاهدة المثابرة ، ليس لأن عائلها قد رحل ولا لأن أهلها قد تركوها وحيدة ، لكن لشدة معاناتها التي لاقتها طيلة حياتها في ظل زوج لا يعبئ بالحياة ولا بالزوجة ولا بالولد ، غير أنني وجدت مئات النماذج لسيدات فضليات ، كل القصص تتشابه ، وكل الجثث تتشابه وكل الهموم تتشابه ، الأنين واحد والحمل واحد ، وتجاعيد الزمن واحدة .

سيدات كثيرات هن نماذج للكفاح والصبر والفضائل ، بكل أشكالهن وألوانهن ، بكل حمولهن وأوزانهن ، بكل حالاتهن وقصصهن ، سيدات لا يشبهن سيدات الجونة ، ولا مغردات تويتر ، ولا ناشطات الفيس بوك ، فهذه نماذج لا تعبر عن هوية المرأة الحقيقية الأصيلة الأصلية ، هؤلاء سيدات لا أعمدة لبيوتهن ، ولا مصباح يضاء ، ولا دفئ يلتف حوله أحد .

المرأة التي أريد الكتابة عنها ، مختلفة ، ليست كتلك التي أراها كاشفة هائمة على وجهها ، سارحة في ملكوت ليس كملكوتنا ، هي السيدة التي بدت لي مثالاً ونموذجاً ، هي التي عمت تجربتها البيوت التي اسكنها ، والاماكن التي اتردد عليها ، والوجوه التي الفتها ، هي ذلك الكل من البعض ، والبعض من الكل ، هي كل الكل وبعض البعض .


لم تكن السيدة "سكينة" ، فاقدة للزوج ولا للأهل ولا للعيال ، كل هذه الأشياء كانت موجودة ، لكنها كالعدم ، الزوج غائب دائماً ، كأنه لا يوجد معيل ، كنت كل يوم في رحلتي المدرسية ، أنظر اليها وهي تقف على عتبات البيت ، وأتسأل في نفسي: ما الذي يجعلك هكذا ؟، أليس بيت أهلك متسعاً لكِ بعيداً عن تلك الهموم المترامية ، يا لك من سيدة تعيش على وجبة واحدةً من الخبز الجاف يومياً ، ألسنة الناس تتفوه ب"بيت أهلك أكرملك"، هي لم تكن تسمعني ، كنت لا أزال في الخامسة عشر من العمر ، وكانت هي قد قاربت على الثلاثون أو الأربعين أو حتى الخمسون ، لا يهم السن ، فملامح الوجه قادرة على أن تتشكل وتتلون لتغير معها نقوش الزمن .

كانت المسافة بيننا بعيدة لكن الهموم مشتركة ، همومها هي التي تعيشها وهمي أنا في ترقب حالها صباحاً ومساءً .

كانت أمي تدرك الحال ، ترسلني ما بين الحين والأخر بما أجاد الله به عليها ، كنت أهرول مسرعاً كالبرق ، ليس لشيئ ، فقط لأرى لمحة فرح قد بدت من فرط ما أقدمه من أشياء بسيطة ، صفعة الحزن تختفي في هذه اللحظة، لا شك أنه الرضا الذي لم أكن أعرف شيئاً عنه في هذا الوقت.

ظلت لسنوات طويلة تعاني من غياب الزوج المستهتر ، كان يأتي للبيت زائراً ، إن قدم بالليل أختفى بالنهار ، وإن جاء بالنهار اختفى بالليل ، لم يفلح في شيئ ، ظل يجوب البلدان نائماً هائماً دون أن يدرك تلك الهموم الملقاة على عاتق زوجته "سكينه" ، كيف له أن يكون إنساناً قبل أن يكون رجلاً ، ذلك الذي يترك في أحشاء زوجته مولوداً ثم يغادر ؟، يعود وقد بدا طفلاً ، ليترك في احشائها مولوداً أخر ، ثم يغادر .

من فرط تحملها واحترامها وصبرها ، كانت محل تقدير من العامة والخاصة ، أنا لم أذكر أن لسان واحد قد تحدث عنها بالسوء ، الجميع كانوا يقدرونها على تحملها ، وهذا عكس الريف الذي يُوجد ويؤلف الحكايات الوهمية رمياً للناس ، كان الشيئ الوحيد الذي يثلج صدري هو سمعتها الطيبة ، تحملها ونموذجها الذي رأيته كثيراً عندما كبرت .


سرعان ما تركتها على هذه الحال ، غادرت أنا هذا المجتمع ، كنت أسمع كيف أنها تتحمل هموم ومشاكل زوجها التي تأتي اليها دون حول ولا قوةً منها ، كان يغيب ، بينما يبعث إليها بوفود من الدائنين "وماذا يأخذ الريح من البلاط" .

سرعان ما علمت أنها تركت مع والدة ووالد زوجها القرية ، توجهت إلى المدينة ، بعد أن تثاقلت عليهم الديون والهموم ، فباع زوجها البيت الذي كان يظلهم بثمن بخس ، جنيهات معدودة ، دفعوا جزءً منها ديون ، والمتبقي اعانهم على الحياة الأخرى .

لم يكن حال الست "سكينة"، فى المدينة بأفضل من حالها فى الريف ، الفرق أن حياة المدينة قاسية ، لن تجد من يحنو عليك فى الشدائد ، ربما طبيعة المجتمع المصري لا تختلف ، الطيبون موجودون في كل مكان وزمان ، لا فرق إن كانوا هنا أو هناك ، الإنسانية عندما تعم تخلق الآمان للذين لا يملكون من حطام الدنيا شيئ .

تسارعت الخطى ، ما بين الحين والأخر أسمع عن استقرار الزوج ، لقد مضت سنوات طويلة على هذه الأوجاع ، لكن الزوج قد عاد والأولاد باتوا يكبرون ، والبنات أيضاً ، علمتهم خصالها وزرعت فيهم صفاتها ، ليس هناك خوف من أن ينشر الزوج صفاته المخذية ، الأم حصنت الأبناء بصبرها وقوتها .

فرحت كثيراً عندما رأيت أن بناتها قد تزوجن وأمست جدة ، وكبر الأولاد وأصبح لكل منهم عملاً ، باتت تسكن في بيت مستقل في منطقة شعبية ، ليس مهماً ذلك ، الأهم أن لها مملكة تنسيها عذابات السنين .

زوجها لم يكف عن المشاكل ، لكن السيدة لديها من يقف في وجهه "الأبناء"، لقد ارتاحت بعد كل ذلك .

 

أنستني السيدة سكينة عشرات النماذج التي كانت بجواري ، لم أتذكر واحدة منهن ، هي الوحيدة التي كنت أتذكرها واهفو للكتابة عنها ، كانت صورتها لا تبرح خيالي ، متى أستطيع الكتابة فأكتب عنها ، ها أنا قد كتبت ، مستريحاً ، بالي لم يعد مشغولاً عليها ، كأنني كنت أنتظر حتى أسطر هذه الكلمات حتى أستريح .


بعد نيف وعشرون سنة عائداً زائراً خفيفاً لمسقط رأسي ، وجدت أنه كان هناك عشرات بل مئات النماذج التي تشبه السيدة "سكينة" ، لكنها هي الوحيدة التي كانت تشغلني بحكم معرفتي الجيدة بها وبظروفها وحالها وأحوالها .

لكني تذكرت السيدة "هيبت"، وتذكرت السيدة "صفية"، وتذكرت سيدات كثيرات ، أعرف ظروفهن جيداً لكني لا أتذكر أسمائهن ، لا تقل مأسيهن عن مأساة سكينة ، قصصهن متشابهة ، ربما كانت أحوالهن أشد ضراوةً عن حال سكينة ، لكني نسيت .

تذكرت كيف أن السيدة "هيبت"، قد رحل زوجها منذ أكثر من ثلاثون عاماً وهي فى الشباب ، ترك لها أربعة من الأبناء ، وجدتهم اليوم يشيدون البيوت ويفتتحون المشروعات ، وأبنائهم يسيرون أمامهم وخلفهم ، هي قد رحلت ، لكن لايزال أولادها يتذكرون جيداً قصة كفاحها ، لقد سألتهم عن ذلك .

وها هي السيدة صفية التي مرض زوجها ، واقعده العجز عن إعالة الزوجة والأبناء ، ظلت إلى جوارهم صامدة من أجلهم ، لم تتفوه بكلمة طلاق ولم تبرح بيتها ، ولم تندب حظها على ما حدث .

هذه هي النماذج التي اتذكرها دائماً لسيدات ربما جاء الوقت لتخليد ذكرهن في كتاب ، أو تسطير قصة حياتهن في مجلد .

لكن الدنيا لن تنقطع عن هؤلاء ، ولاتزال الحياة طالما أن هناك شمس تشرق وتغرب مليئة بمثل هذه النماذج ، عينك فقط هي التى ترى من تريد أن تراه ، أنت لا تغمض عينيك ، عقلك هو من يركز على شيئ ما ويأخذك ناحيته .

لكن لو التفت أمامك لوجدت زوجتك وأمك واختك وجارتك ، نعم الظروف ليست متشابهة مع ظروف صفية ولا سكينة ولا هيبة ، لكن الحمول قد تكون واحدة ، وطأة الظروف هي التي تبدو مختلفة .


أنا مثلاً ، أرى اليوم أن زوجتي ليست بأقل من السيدة صفية أو هيبة ، هي تستيقظ فى السادسة والنصف يومياً ، تجهز طعام الأولاد ، توقظهم وتظل في معركة معهم حتى تأتي الساعة السابعة والنصف ، يغادرون للمدرسة ، وتظل هي في حالة تأهب واستعداد لحين العودة ، هذه الفترة تتطلب منها اعداد الطعام والانتظار حتى العودة ، لتبدأ معركة استذكار الدروس والاستماع لكل طرف "ماذا حدث بالمدرسة"وما اقترفت ايديكم من مصائب !.

سرعان ما تدق السادسة مساءً ، تحملهم الى التمارين ، لمدة ساعتين أو أكثر ، وما بين الساعة التاسعة وحتى الحادية عشر تذاكر وكأنها هي التلميذة وليسوا هم ، ثم ساعة أخرى من المعارك من أجل أن يخلدوا للنوم ، ويتركوا هواتفهم استعداداً ليوم أخر مليئ بالأحداث .

أبحث عن دوري في كل هذا ، أجد أنه لا يساوي شيئ ، نعم أنا أجلب لهم رزقهم الذي سخرني الله للمجيئ به دون حول ولا قوة مني ، وهذا قد يبدو بسيطاً ، لكني لا أعرف دوراً أخر أقوم به ، فلست ضليعاً في العربية أو الانجليزية أو الفرنسية حتى اذاكر لهم ، وإن كنت ضليعاً فليست لدي القدرة على ذلك ، لا أعرف فنون الطهي ولا تنظيف المنزل ولا الاستماع للهموم ، أنا مجرد خيال موجود أحياناً تستخدمني زوجتي لاخافتهم فقط لو استدعى الأمر .

هذا حال معظم الزوجات والأزواج فى البيوت .

 

تذكرت مقولة أحد السيدات" البيوت مقفولة على بلاوي"، البيوت فعلاً مغلقة على ما فيها ، بسبب صبر ستاتها وكفاحهن وتغافلهن ودعواتهن ودموعهن وتضحياتهن والحب الذي في قلوبهن وتخطيط عقولهن ومجهودهن وصحتهن التي تروح وتفنى بسبب خدمتهن للجميع .


إن الأعمدة الواقفة تحت سقف البيت هي الست ، هي التي تحمل السقف ، ولو هلكت أو فاض بها وافلتت يدها ،لوقع السقف وانهار على من تحته …هذه الأعمدة هي مئات السيدات ممن قابلتهم وجاورتهم ، ولا يزلن يقفن صامدات راهبات في محراب الحياة .

أقرأ أيضا: توقيع اتفاقيتين للمساهمة المجتمعية لقطاع البترول في دعم الرعاية الصحية بمطروح وبورسعيد

التعليقات

أستطلاع الرأي

هل تؤيد ضم الشركات متشابهة النشاط الواحد ؟