الكاتب : عثمان علام |
11:08 am 26/09/2021
| 5435
قبل أكثر من 21 عام ، كنت أركب كل وسائل المواصلات "مترو-اتوبيس_ميكروباص-قطار "، كل شيئ تذكرته بخسة كنت اركبه ، ربما لم اعتاد ركوب التاكسي ، فقد كان ولايزال مكلفاً للغاية ، قد يحملك مشوار من وسط البلد لميدان الخلفاوي بشبرا ، وتدفع له 4 أو 5 جنيهات ، وكان هذا مبلغ كبير في نهاية التسعينيات ..انت تدفع في نفس المشوار اليوم خمسون جنيهاً وتقول : دا رخيص والله .
القطار كنت أركبه في سفري للصعيد ، والمترو كنت اتنقل به داخل القاهرة ، أما اتوبيس هيئة النقل العام فاعتدت ركوبه فور دخولي الجامعة ، كنت مغرم باتوبيس الجامعة والخطوط التي تأخذك للتحرير ومدينة نصر وميدان الجيزة ومصر الجديدة ، هكذا كنت ترى وجوه مختلفة ..الفتيات الجميلات التي لم أرى مثلهن في قريتي القادم منها ، السيدات اللواتي يذهبن لأعمالهن صباحاً وهن مقهورات ولكن في قمة الشياكة "هكذا كنت أظن"، أصناف من البشر كنت أراها وأقول : من هؤلاء ولماذا لا يوجد مثلهن في قريتي ، إنه عالم مختلف ؟
#للاشتـــراك_فـــي_قنـــاة_المستقبـــل_البتــــرولي_علي_اليوتيـوب
https://www.youtube.com/channel/UCX0_dxgnzuKWZhfjljA8V6A
مع مرور الوقت اكتشفت أن الناس في قريتي رغم البؤس والشقاء والفقر ، أفضل حالاً من هؤلاء الذين يعيشون حياتهم بين التنطيط فى الاتوبيسات والمترو ، على الاقل لا توجد سيدة فى الريف تهرول للحاق بعملها ، ولا تجد رجلاً مسناً يجري للحاق بتوقيع الساعة الثامنة ، أو ترى سيدة تحمل على رأسها "طشت"مملوء بالجُبن والعيش وتفترش الأرض لتعيش بما تبيع ، ولم ترى السيدة ألتي تقود العربية الكارو ، وتيرة الحياة فى القرية كانت أكثر هدوءً وامتاعاً عن المدينة الصاخبة ، المدينة فقط تبهرك كثيراً مهما كانت السلبيات ، أنت لازلت قروي ساذج معبئ بعادات وتقاليد الريف ، تريد أن تتخلص منها للأبد ، تريد للسانك أن يعوج فينطق الجيم قاف والقاف الف ، تريد أن تمسح تراب الارض من على وجهك ، ظناً منك أنه سيئ ، قبل أن تكتشف أن تراب الأسفلت وعفرته المعبأة بالسموم والامراض والعوادم ، أسوء منه ، فقد تسبب في عقم وإصابة الكثيرين من الرجال والنساء والأطفال بالأمراض .
نعم لم أرى فى القرية أن هناك رجل فشل في معاشرة زوجته ، غالباً ما كانوا يحملونها الى الطبيب في أول يوم زفاف ، فقد أسرف فى الجنس فاستحقت عملية جراحية ، وكبار السن يسرفون في أكل البصل والجُبن القديم والسمن البلدي واللحوم السمينة ويمارسون حياتهم الجنسية لما بعد ال90 ، وينجب الرجال والسيدات في سن متأخرة ، بينما الناس فى المدينة تنقطع متعهم بسبب المشاكل المترامية .
المهم أن حياة المدينة تبهرك بكل ما فيها ، لكنها سرعان ما تتحول لمأساة حقيقية تود لو تخلصت منها ، وكيف لك أن تتخلص منها وقد دخلت ألف نفق ونفق .
عندما تكبر لا تستطيع أن تقنع أولادك بأن الحياة فى الريف أفضل حالاً من المولات ومجتمع النوادي ودوامة الصحاب والتمارين الصباحية والمسائية والمدارس الدولية ، وحفلات الدش بارتي وأعياد الميلاد ، والعاب البلاي ستيشن ، هم لا يتحملون إذا سافروا معك تلك الذبابة اللعينة تأتي على وجوههم ، أو لدعة ناموسة ، كنت اتحمل العديد من الذباب والناموس ولم اشتكي ، فقد كنت لا أشعر ، الذباب والناموس كان صديق الأطفال والكبار معاً .
ويبدو أن كل ماسبق كان حلماً وكان صرحاً من خيالاً فهوى ، فالريف لم يعد هو الريف ، والقرية لم تعد هي القرية ، التكنولوجيا لم تقرب المسافات فقط ، لقد ألغت كل المسافات وقضت على الفروق والحواجز ، البيوت باتت خاوية من الخيرات ، لا فراخ ولا جُبن ولا لبن ولا أنفاس المواشي التي كانت تدفئ الفلاح ، وموسم القطن الذي كان يزوج فيه بناته وصبيانه ويكمل بناء البيت لم يعد موجود ، لقد حل محل كل ذلك القنوات الفضائية والسهر على الفيس بوك ، والرخام المزركش والحمامات الافرنجية والحوائط الخرسانية ، والأفران الاوتوماتيكية ، واختفت الفرن البلدي والكانون ، كل شيئ فى المدينة له فرع فى الريف ، الأختلاف فى الأسماء والمسميات فقط ، أما الجوهر فبات واحداً .
سنوات طويلة والعين ترقب ذلك التحول الجذري بين المجتمعات في مصر ، ومن الواضح أن شيئاً لا يظل على حاله ، فأنا مثلاً لم أدرك أنني قد كبرت ، وأن هناك عشرات من الأطفال والأبناء ينادونني بكلمة "جد"، شقيقاتي البنات تزوجن وبناتهن وصبيانهن تزوجوا أيضاً وانجبوا ، وعيالهم بالنسبة لي أحفاد .
كيف للأيام أن تجري بهذه السرعة المفرطة ، وكيف لي أن أصبح جداً ؟ والأغراب ينادونني ب"عمو"، أو "انكل"، حتى البنات في عمر ال30 يقولون لي هكذا "عمو".
لهذه الدرجة قد كبرت وكبر جيلي ، ولو عادت بي الأيام وركبت الأتوبيس أو المترو ، ولم أجد مقعد حتماً سأجد من يقفون لي لأجلس ، هكذا كنت أفعل وأنا صغير …من الممكن أن أصرخ في وجوه الشباب وأقول لهم : أنا لازلت شاباً وصغيراً مثلكم ، لكن قد أتراجع ، عندما أستحضر صورة لذقن وشارب إبني محمد وقد أمضى عامه ال18 قد خط في وجهه الملائكي ، وبات يجلب أمواس وماكينات الحلاقة ليزيل الشعر من وجهه وكذلك مزيلات العرق ، لقد أصبح شاب ، وهكذا يذكرني أبنائي كريم وعمر ، وهم يقفون إلى جواري ما بين الحين والأخر ، مرددين : "إحنا بقينا طولك يا بابا".
ثم إن البنات المتزوجات وأبائهن أصدقاء لي دائما ينادونني بكلمة "عمو"، ما هذا يا بنت منك لها ، أنا ما زلت صغيراً ، فى استطاعتي أن اتزوج مثلكن .
نفسك فقط هي من تدلك على أنك مازلت شاب أو قد أصابك العجز ، والحمد لله أن جعلني أشعر بشعور الشباب ، ربما لا أستطيع فعل أفعالهم ، الزمن له احكامه .
صديقي الشاب دائماً ، هو أكبر مني بخمس سنوات ، كلما مشينا في طريق ينظر بعينيه لأي سيدة جميلة أو بنوتة صغيرة ، المهم أنها طويلة وبدينة وبيضاء ، السن لا يمثل شيئ في قاموسه النسائي ، أنا بطبعي أنزوي جانباً ، فلا أنظر للصغيرات فمن ليست منهن في عمر أولادي فهي في عمر بنات شقيقاتي أو أصدقائي ، قد اختلس نظرات لمن هن في سني "45 "، وما فوق ، أو من تخطين ال35 عاماً ، هن المناسبات لي ، الصغيرة تحتاج لمن يجري ويهرول خلفها ، تحتاج لمن يتحمل تفاهتها وشبابها ، هي تحتاج للخروج دوماً ولأكل كنتاكي وماكدونالز ، وسماع تامر حسني والذهاب لحفلات عمرو دياب ومحمد رمضان ، كل هذه أشياء لا تناسبني الآن ، أنا أبحث على من تشاركني اهتماماتي ، لا يهم إذا كانت تحب ما أحبه ، الأهم أنها تحترم ما أحبه .
ربما لو كنت لا أزال أعيش فى الريف ، قد أتزوج صغيرة فى العشرين ، فقد وجدت أجداد وأعمام وأخوال يتزوجون ببنات في عمر أحفادهن ، وينجبون والحياة تسير ، ويعود هؤلاء الأجداد شباباً في عمر العشرين ، أما فى المدينة ، فقد تتزوج بواحدةً أكبر منك ويبارك ذلك المجتمع أو تتزوج بمن هي في نفس سنك ، من تصغرك ب15 عام أنت بالنسبة لها كوالدها ، ولو عدت إلى الريف قد أجد ذلك .
أرأيتم كيف أن الحياة باتت معقدة ، ولم يعد لمكان تلك الهوية والخصوصية الثقافية التي كانت …ورغم كل ذلك "أنا لازلت شاباً ". لأن الحب كقيمةٌ مطلقة سرٌ كبير من أسرار الدنيا ..لا يعيه إلا الإنسان المحظوظ النقي القادر دومًا على تجديد شباب قلبه بالعطاء و التسامح