الكاتب : عثمان علام |
05:49 pm 19/09/2021
| 3946
أكبر مشكلة من الممكن أن تواجهك هي "الانتظار"، أنت تنتظر الترقية تنتظر المال تنتظر الزوجة تنتظر الولد تنتظر العمل تنتظر الصديق تنتظر السؤال تنتظر الغريب تنتظر المسافر تنتظر القطار تنتظر الطائرة…تنتظر الكاتب وتنتظر الكتاب ، وبعد كل هذا الإنتظار تجد المحصلة صفر ، فلا شيئ يأتي في موعده .
كل الأشياء التي تنتظرها عندما تأتي سرعان ما يذوب طعمها ويذهب بريقها ، وتصبح شبحاً ، مثل الذي صوره جبران خليل جبران في بيته الشعري : وما الدنيا سوى شبح يرجى..إذا صار جسماً مله البشر .
ألإنتظار شيئ صعب حتى عندما تذهب للمقهى أنتظاراً لأصحابك الذين لا يلتزمون بالمواعيد ، أو تنتظر زوجتك فى السيارة أو أمام باب الشقة حتى تنتهي من وضع اللمسات الأخيرة لمكياجها ، وليتها تنتهي ، غالباً ما تنتظر قبل الإنطلاق بالسيارة حتى تهندم خصلات الشعر المتدلية عبر المرآة .
وأصعب من أن تنتظر أنت ، أن ينتظرك غيرك ، تخيل أن هناك محتاج ينتظرك لتحل أزمته أو مفلس لتقرضه مبلغ من المال أو تائه لتلتقطه من الطريق ، أو زوجة انتهت من أعمالها المنزلية فى أنتظار صاحب السعادة .
#للاشتـــراك_فـــي_قنـــاة_المستقبـــل_البتــــرولي_علي_اليوتيـوب
https://www.youtube.com/channel/UCX0_dxgnzuKWZhfjljA8V6A
ثم تخيل أنك تكتب مقالاً يومياً أو شبه يومي وهناك من ينتظرك ، وتجد نفسك مفلس بدون أفكار ، ذهبت الفكرة ، فقد كتبت عن الفساد والمحسوبية والنفاق والجهل والمرض والفقر ، وبنات الليل والمخدرات وأطفال الشوارع والمتسولين وحرامية البنوك ونواب القروض والممولون من الخارج وأعداء الداخل ، وكتبت عن الإنجازات وعن الدين والسياسة والجنس ، وعن الأدباء والفلاسفة والشيوخ والقساوسة والمسجد والكنيسة وقداسة البابا وفضيلة الإمام ، كتبت عن كل شيئ ، الصالح والطالح ، الظالم والمظلوم الفاسد والشريف المجتهد والفاشل ، كتبت عن كل هؤلاء ، ثم يأتي موعد مقال الغد فلا تجد مفردة واحدة تسطرها ، أنت تتحير ماذا أكتب إذاً ، وهل أترك القراء يقفون يتجرعون مرارة الإنتظار ؟هذا إن كان لك قراء أصلاً ، أو كنت تكتب كلاماً سديداً .
الشخص الذي يستطيع أن يكتب ولا يذيق القارئ مرارة الانتظار ، هو ذاك الذي يطير بجناحين ، طائر يضع على كل بستان لحظة ، لكني لست هذا الطائر ، فلدي جناحين مقيدين ، أنا لا أستطيع أن أكتب عن قصة حبي التي عشتها منذ 30 سنة وإلا لطردت شر طردة أو طُلقت شر طلقة ، أو نلت طلقة فى دماغي ، أو خنجراً بين أضلعي ، أنا لا أستطيع أن أكتب عن الوضع المزري الذي أراه أمامي كل يوم فى الشارع ، والا أصبحت في خبر كان ، ولا أستطيع أن انتقد الصحاب أو من يمدون يد العون مهما كانت خطاياهم وإلا خسرت كل من حولي ودخلت سراية المجانين أو السجن ، لهذا أشعر بالإفلاس كل يوم ، فالرقيب الذي يسكن بداخلي يقيدني ويجعلني غير قادر على أن أكتب ما أُريد ، دائماً أضع أبنائي أمامي ، واردد "الأبن مقبرة مجبنة".
والإنتظار والكتابة والقراء ، اعتياد ، لهذا جرب أن تعتاد فعل شيئ ما يومياً ، أعتقد أنك ستمل منه حتى وأن واظبت على فعله ، أنت اعتدت الذهاب للعمل فتصاب بالزهق والكآبة وتود لو أن لك مدخرات فتودع التزام العمل ، وانتظار المرتب الذي لا يكفي سوى لأسبوع واحد، أنت تعتاد أكل الفول والطعمية أو اللحوم إن كنت ثري ، بعد فترة يحدث الفتور وتود لو أكلت شيئاً أخر ، أن تجلس كل يوم مع نفر من الأصدقاء ، سرعان ما تملهم وتشعر أنك بحاجة إلى وجوه جديدة ، أنت ترى زوجتك الجميلة كل يوم ، تظل لفترات تعيش حياة العشق والغرام ، سرعان ما ينطفئ مصباح الهيام والجنونية ، فتود لو بدلت زوجتك البيضاء صاحبة الشعر الأشقر الصالحة المطيعة ، مربية الأطفال وربة الصون والعفاف بسيدة سمراء أو شقراء أو حمراء أو خضراء ، أنت لا تعرف عنها شيئ سوى قوامها الممشوق ورائحة برڤانها التي تفوح للمارة ، أما أخلاقها وطباعها فأنت لست بحاجة إليهما الآن ، تريد فقط أن تتخلص من الاعتياد .
كل شيئ تعتاده يتحول بعد مرور الوقت لكائن صعب التعايش معه ، لكنك تتعايش ، الحل الوحيد أنك تظل تنتظر ، فإذا تحقق ما انتظرته واعتدت عليه ، صار جسماً ممسكواً سرعان ما تمله .
ارأيتم كيف أنني انحرفت بالمقال من معنى مرارة الانتظار ، لقسوة الاعتياد ، ما الذي جعلني أربط هذا بذاك ، فما الذي جعلني انتقل من موضوع لأخر دون إرادة وكأنهما موضوعاً واحد ؟.. اعتقد أنها مرارة الانتظار التي تولدت من قسوة الاعتياد ، فقد أعتدت أن أكتب واعتدتم أنتم الإنتظار .
ترون كم أنا شخص مخرف !